من ذلك اسم أبى منصور مولى سعد بن أبى وقّاص، وهو-كما فى كتابى رياض النفوس والمعالم-ممن دخل إفريقية وسكن القيروان، وكان مقرئا للقرآن ومحدّثا وفقيها مفتيا. واجتماع الفقه ورواية الحديث النبوى مع إقراء القرآن الكريم لأبى منصور لا يستغرب، لأن التابعين من أمثاله كانوا يجمعون بين إقراء الناشئة والناس للقرآن وإسماعهم بعض الأحاديث النبوية وتفقيههم فى الدين بمعرفة أحكامه وتعاليمه. وعلى هذه الشاكلة كان الفقهاء العشرة أعضاء وفد عمر بن عبد العزيز لسنة مائة للهجرة، فهم يقرءون الناس الذكر الحكيم ويروون لهم بعض الأحاديث النبوية ويعلمونهم أمور دينهم الحنيف. وعنى بعض القيروانيين بحمل قراءات القرآن عن نافع قارئ المدينة. وكان ورش المصرى قد حمل قراءته فأخذتها جماعة من القيروان عن تلاميذه المصريين. ومن أهمهم فى القرن الثالث الهجرى محمد بن عمرو بن خيرون المتوفى سنة ٣٠٦ هـ/٩١٨ م. وقد حمل قراءة ورش، وقدم بها إلى القيروان كما يقول ابن الجزرى فى طبقاته، وكان الغالب على قراءة الناس فيها قراءة حمزة أحد القراء السبعة، ولم يكن يقرأ قراءة نافع إلا خواص الناس، فلما قدم ابن خيرون إلى القيروان اجتمع عليه الناس ورحل إليه القرّاء من آفاق المغرب، ومن مؤلفاته كتاب الابتداء والتمام وكتاب الألف واللام. وكما أخرجت القيروان إماما لغويا هو القزاز، وإماما ناقدا بلاغيا هو ابن رشيق، أخرجت إماما فى القراءات، هو مكى بن أبى طالب القيسى المولود بالقيروان سنة ٣٥٤ هـ/٩٦٥ م ولما استكمل القراءات بالقيروان رحل إلى مصر سنة ٣٧٧ هـ/٩٨٧ م وتتلمذ فى القاهرة لشيخ قرائها ابن غلبون، وكأن يعود إلى بلده ثم يرجع إليه، حتى أخذ كل ما عنده، وهاجر إلى قرطبة سنة ٣٩٣ هـ/١٠٠٢ م وظل يقرئ بها الناس حتى توفى سنة ٤٣٧ هـ/١٠٤٥ م وله فى القراءات كتاب التبصرة فى خمسة أجزاء، وكتاب ثان فى أصول قراءة نافع، وكتاب ثالث فى المدّ لورش، وذكر له ابن خلكان عشرات من الكتب فى القراءات والتفسير والفقه والعربية. وكان يعاصره أحمد بن عمار المهدوى المتوفى سنة ٤٤٠ هـ/١٠٤٨ م وله كتاب الهداية فى القراءات السبع وله عليه شرح كما يقول ابن الجزرى وله كتاب الموضح فى تعليل وجوه القراءات. وظلت قراءة الذكر الحكيم ناشطة فى القيروان على مدار السنين، واشتهرت بها أسر توارثتها جيلا بعد جيل، ويصور ذلك -من بعض الوجوه-ما ذكره العبدرى فى رحلته حين زار تونس فى سنتى ٦٨٨ هـ/١٢٩٠ م و ٦٩١ هـ/١٢٩٢ م والتقى بالرحالة التونسى أبى الحسن على بن إبراهيم التجانى فى مسجد إقرائه، ومما قال له:«أنا الثانى عشر مدرسا من آبائى على نسق كلهم قعدوا هنا»(أى فى هذا المسجد) للإقراء، وهذا يعنى أن بيت التجانى فى تونس توارث الإقراء للقرآن طوال اثنى عشر جيلا متعاقبين، وإذا حسبنا لكل جيل ثلاثين سنة على الأقل كان معنى ذلك أن الأسرة توارثت إقراء القرآن نحو ثلاثة قرون ونصف أى منذ منتصف القرن الرابع الهجرى. ومن كبار القراء فى العهد الحفصى أبو القاسم اللبيدى معاصر التجانى صاحب الرحلة، وكان الطلاب يقرءون