وينتقل هذا المذهب إلى القيروان ويتجادل أهل السنة مع معتنقيه، وفى خبر عند أبى العرب، أنه كان للمعتزلة بالقيروان سقيفة يجتمعون فيها، وتوقف شخص بإزائهم وهم يتجادلون يستمع إليهم.
وإذا مضينا إلى القرن الثالث وجدنا محنة خلق القرآن التى امتحن بها الفقهاء من أهل السنة فى عصور المأمون والمعتصم والواثق ينتقل الجدل والحوار فيها إلى القيروان، فمنهم من يقول إن القرآن-كما قال أهل السنة-قديم، ومنهم من يقول-كما قال المعتزلة-إنه حادث مخلوق غير قديم. ويذكر أبو العرب فى طبقاته مناظرة حدثت أيام زيادة الله الأغلبى (٢٠١ - ٢٢٣ هـ) عن خلق القرآن كان الجعفرى يقول فيها إنه غير مخلوق، والعنبرى يقول إنه مخلوق. وفى طبقات أبى العرب أنهم كانوا يتجادلون كثيرا فى التشبيه على الذات العلية. واتسع الجدل فى ذلك كله بجامع عقبة، إذ كان لكل فرقة ممن ذكرناهم حلقة يجتمعون فيها ويتجادلون جدلا كثيرا. وكان أهل السنة يضيقون بهذا الجدل وما يحدثه من جلبة وضوضاء فى جامع عقبة حتى إذا تولّى سحنون قضاء القيروان سنة ٢٣٤ هـ/٨٤٨ م «فرّق-كما يقول مترجموه- حلقات أهل البدع منهم فى المسجد الجامع وشرد أهل الأهواء وكانوا فيه حلقا: من الخوارج:
صفريّة وإباضية ومعهم معتزلة، يتناظرون ويظهرون زيفهم. . وأمرهم أن لا يجتمعوا فيه» وقد أتاح هذا الجدل الواسع للمعتزلة وغيرهم فى القيروان حركة جدلية واسعة، حتى ليصف أبو العرب والخشنى فى طبقاتهما غير واحد بأنه كان من الجدليين المناظرين الذين يعرفون كيف يدفعون الخصوم بالحجج والبراهين الساطعة، ولم يصفا بذلك المعتزلة أو كما يسميانهم أحيانا العراقيين بل يصفان بذلك كثيرين من أهل السنة. ومن كبار متكلميهم المجادلين عن عقيدتهم المفحمين لخصومهم أبو عثمان سعيد بن محمد المشهور بابن الحداد رأس المدرسة الكلامية بالقيروان كما يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وقال الخشنى فى طبقاته: غلب عليه الكلام والجدل والمناظرة. . وله مقامات كريمة ومواقف محمودة فى الدفاع عن الاسلام والذّبّ عن السنة» ويصفه المالكى فى رياض النفوس بأنه كبير المناضلين عن السنة وكانت له مجالس كثيرة مع أهل العراق (يريد المعتزلة) القائلين بخلق القرآن من أهل القيروان، ويسوق الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب من هذه المجالس مجلسا تحاور فيه مع عبد الله بن الأشج فى خلق القرآن وأسكته وقطعه، ولما سلّط عبيد الله المهدى داعيته أبا العباس المخطوم لجدال فقهاء القيروان ومحاولته إقناعهم بمبادئ دعوتهم الإسماعيلية كان أكبر من تصدّى من أهل السنة له ولغيره من دعاتهم فى أربعين مجلسا سجل منها الخشنى فى طبقاته أربعة مجالس ونسوق مثالا من هذه المجالس، فقد سأله أبو العباس المخطوم هل يجوز تقديم المفضول (أى أبى بكر وعمر فى الخلافة) على الأفضل (أى على) فأجابه بمقال من القرآن هو قوله تعالى: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ}