التخاطب بلغتهم، فلم يتهيّأ لهم ذلك، وبقى المالطيون محافظين على ما عندهم من العربية خلفا عن سلف، وإن فى ذلك لذكرى لأولى الألباب».
وظلت العامية شائعة على ألسنة أهل القيروان والمدن الساحلية الشمالية إلى أن خفّفت من حدتها فى منتصف القرن الخامس الهجرى الزحفة الهلالية والسليمية، وقد مضى الزاحفون يعرّبون المناطق البعيدة والأطراف النائية التى لم يكن لها عهد بالعربية، وكان مما عمل على نشر العربية فى الإقليم التونسى بعد هذه الزحفة هجرة الأندلسيين إليه فى أوائل القرن السابع الهجرى إذ يقول ابن خلدون: «إن ملكة العربية صحّت فى إفريقية (تونس) بجلاء أهل شرقى الأندلس إليها» ومعروف أن هذا الجلاء كان فى أوائل القرن السابع. على أننا لا نصل إلى أوائل القرن الثامن الهجرى حتى يحدّثنا التجانى فى رحلته عن شعراء سليميين وهلاليين اشتهروا بأشعارهم الملحونة، ويسمون القوّالين. وأطال ابن خلدون فى أواخر هذا القرن فى الحديث عن هؤلاء الأعراب القوالين فى تونس والبلاد المغربية، وكأن اللحن شاع على ألسنة الأعراب جميعا فى القرن السابع الهجرى، وربما سبق هذا التاريخ فى بعض الأنحاء وتأخر فى أنحاء أخرى مثل عرب برقة بشهادة العبدرى كما مر بنا. ويقول ابن خلدون فى الفصل الذى عقده لأشعار الأعراب وأهل الأمصار لعهده:«إنهم يقرضون الشعر لهذا العهد فى سائر الأعاريض على ما كان سلفهم المستعربون يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء» ثم يقول: «وأساليب الشعر وفنونه موجودة فى أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب فى أواخر الكلم، فإن غالب كلماتهم (أشعارهم) موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب». وأخذت هذه العامية التونسية تتأثر بعد ابن خلدون بلغة من احتلّها من الإسبان ومن الترك على نحو ما مر بنا فى حديثنا عن تاريخها، وبذلك احتوت العامية التونسية بعض رطانات فى مقدمتها الرطانة البربرية التى امتزجت بها من قديم.
وإذا كان ابن خلدون لاحظ أن المهاجرين الأندلسيين القدامى فى القرن السابع الهجرى بثّوا روحا وانتعاشا فى ملكة العربية التونسية فإن ملاحظته تنصبّ-فيما بعد-على المهاجرين الأندلسيين فى أوائل القرن الحادى عشر الهجرى، إذ بثّوا نفس الروح والانتعاش، وحالوا بينها وبين الركود الأدبى الذى رافق العثمانيين فى حكمهم للبلاد العربية المشرقية. ومن المؤكد أنه كانت هناك لغة عامية يتداولها الناس-كما مرّ بنا-وأخذت تشيع فى البوادى والأنحاء البعيدة منذ القرن السابع الهجرى، وربما قبل ذلك فى بعض الجهات، غير أنه من المؤكد أنه كان للفصحى دائما السيادة عليها، لأنها لغة القرآن الكريم والدين الحنيف ولغة الثقافة والعلم بمختلف فروعه، ولغة الأدب وروائعه الشعرية والنثرية.