وكنّا إذا ما الجيش صفّت جنوده ... ترانا على خيل عتاق ضوامر
نخوض وغاها والقنا تقرع القنا ... بكل حسام مشرفي وباتر
ونسج القصيدة جزل متين، وهى معربة إعرابا تامّا، وترجع إلى النصف الأول من القرن السابع الهجرى مما قد يدل-من بعض الوجوه-على أن قبائل سليم-ومثلها غالبا قبائل هلال-لم تزايل ألسنتها الفصاحة ولا أصابها خلل الإعراب فى النطق حتى عصر عنان بن جابر. وقد يسند رأينا-من بعض الوجوه-ما حكاه العبدرى فى رحلته عن أهل برقة الليبية من أن «كلام عرب برقة من أفصح كلام عربى سمعناه، ويقول: وعرب الحجاز أيضا فصحاء، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم، فلم يختلط كلامهم بغيرهم، وهم الآن (فى أواخر القرن السابع الهجرى) على عربيتهم لم يفسد من كلامهم إلا القليل، ولا يخلّون من الإعراب إلا بما لا قدر له بالإضافة إلى ما يعربون». ويسوق العبدرى أمثلة من كلامهم سمعها كما رواها وفيها يحتفظون حتى زمنه بالإعراب. ومن بقايا هذا الإعراب-فى رأيى-احتفاظ قبائل المحاميد والمرازيق وأولاد يعقوب وغيرهم فى النواحى الجنوبية من الإقليم التونسى -إلى اليوم-بنون النسوة فى كلامهم، فيقولون:«النساوين يشربن ويأكلن ويغزلن» ولا تزال هذه النون تنتشر فى نواحى طرابلس وبرقة الليبيتين كما يقول الأستاذ عبد الوهاب.
وليس معنى كل ما قدمت أن العامية العربية لم تأخذ طريقها إلى ألسنة أهل المدن فى الإقليم التونسى إلا فى وقت متأخر، فالمظنون أن هذه المدن مثلها مثل الفسطاط فى مصر وغيرها من المدن العربية استخدمت مبكرة لغة عامية بها غير قليل من الألفاظ البربرية المحلية، وخالية من الإعراب، متخففة من الحركات وملتمسة التسكين لأواخر الكلمات. ويبدو أن هذه العامية القيروانية أو التونسية أخذت تشيع فى الألسنة منذ أوائل القرن الثالث الهجرى وأن فاتحى صقلية من القيروانيين والتونسيين سنة ٢١٢ للهجرة حملوها إليها، كما حملوها إلى مالطة حين فتحوها سنة ٢٥٥ للهجرة لعهد الأمير الأغلبى أبى الغرانيق، وقد ظلوا يحكمونها حتى سنة ٤٨٥ للهجرة حين انتزعها منهم روجار النورماندى صاحب صقلية، وظل المسلمون بها تحت ولاء النورماند نحو مائة وستين عاما إلى أن أجبرهم على مبارحتها فريدريك الثانى إمبراطور المانيا سنة ٦٤٧ لعهد المستنصر الحفصى كما مرّ بنا، ومن حينئذ أصبحت مالطة مسيحية خالصة، وقد ظلوا إلى اليوم يتداولون فى حياتهم لهجة عربية مالطية مشتقة من اللهجة العربية التى كان يستخدمها آباؤهم وبحق يقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب: «إن بقاء هذه اللهجة فى مالطة لظاهرة عجيبة، بل حجة قوية ومعجزة بالغة فى حيوية اللغة العربية ورسوخها العميق فى قرارة نفوس من يتكلم بها من الأجيال. ألا ترى هذه الجزيرة المسيحية النحلة قد تعاقبت عليها-منذ ثمانية قرون-أمم ودول متعددة، آخرهم الإنجليز وودوا لو يحملون أهلها على