هوارة إنهم «تبدّوا-مع الأعراب-ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب وتحلوا بشعارهم فى جميع أحوالهم».
ولم تتبدّ هوارة التونسية أو تتعرب وحدها فى الإقليم التونسى، بل تعرب الإقليم جميعه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فى خلال قرن بل يزيد، إلى أن استولى على الإقليم زعيم دولة الموحدين المغربية عبد المؤمن بن على، ولكن هل العربية التى حملتها قبائل هلال وسليم وزغبة إلى الإقليم التونسى هى الفصحى أو هى عربية دارجة عامية؟ ونرجح أنها الفصحى، ويدل على صحة رأينا أن القبائل من سليم وهلال وزغبة كانت قد انضوت تحت لواء الأعصم القرمطى حين غزا الشام ومصر سنة ٣٦٠ للهجرة ورأى الخليفة الفاطمى العزيز-حين صالحه-أن ينزلها فى صعيد مصر، وحوّلهم بعده الخليفة الفاطمى المستنصر إلى تونس لضرب المعز بن باديس كما أسلفنا، وكانت الجزيرة العربية مصدرها لا يزال سكانها يحافظون على الفصحى بشهادة الجوهرى فى مقدمة معجمه الصحاح إذ يقول إنه أخذ اللغة عن أهلها مشافهة، وإنه طوّف فى بلاد ربيعة ومضر، ونجد الباخرزى فى كتابه دمية القصر المؤلف فى منتصف القرن الخامس الهجرى يترجم لشعراء كثيرين من قبائل نجدية شتى وينشد من أشعارهم، مما يدل على أن الفصحى كانت لا تزال حية بعد مغادرة بنى سليم وهلال للجزيرة بنحو قرن، ويبدو أنها ظلت حية فى الجزيرة العربية قرونا بعد ذلك، فإن عمارة اليمنى يشهد-كما مر بنا فى الجزء الخامس من هذه السلسلة-بأن تهامة والبوادى وأهل الجبال فى اليمن-لعصره بالقرن السادس الهجرى-كانوا يتكلمون الفصحى ولا يلحنون فى كلامهم.
ومما لا شك فيه-إذن-أن قبائل بنى سليم وهلال التى نزلت مصر وتركتها إلى ليبيا وتونس وما وراءهما من بلاد المغرب لم تكن تنطق عربية مولّدة أو عربية عامية، إنما كانت تنطق عربية فصيحة، ومن الخطأ أن يتشكك بعض الباحثين فى صفاء عربيتهم مستدلا على رأيه بشعر القصص الهلالية المعروفة التى تحكى مغامرات أبى زيد الهلالى فى شعر شعبى يختلف فى صياغته-قليلا أو كثيرا-عن صياغة الشعر العربى الكامل الفصاحة فضلا عما يجرى فيه من خلل الإعراب، غير أن هذا القصص نشأ فى عصور متأخرة، حين أخذت لهجات شعبية تشيع فى ألسنة أهل تونس وغيرها، ومما يؤيد رأينا أن نجد ابن خلدون ينشد قصيدة بديعة لأحد رؤساء قبيلة عوف من بنى سليم، وكانت تستولى على ما بين قابس وسوسة، وهو عنان بن جابر، وكان أبو زكريا مؤسس الدولة الحفصية قد أوغر الصدور بين قبيلته وقبيلة علاق، فنشبت بينهما معارك ضارية، وأغضب ذلك من أبى زكريا عنان بن جابر فرحل بقبيلته إلى صحراء المغرب الأوسط (الجزائر) فكتب إليه محمد بن أبى الحسين وزير أبى زكريا قصيدة يعاتبه فيها على هجرته عن وطن آبائه، ويدعوه إلى العودة إليه، ثم كتب إليه قصيدة ثانية، فرد عليه عنان محزونا لما اضطر إليه من فراق موطنه، وفيها يتحدث عن بسالة قبيلته فى الحروب بمثل قوله: