للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانوا يعتلون بالمساجد منصات محاولين أن يعلّموا الناس بعض تفسير القرآن شارحين لهم بعض الأحاديث النبوية مع التعرّض لجوانب من تعاليم الدين الحنيف، وأخذ كثيرون فى البوادى وسفوح الجبال يسعون إلى حفظ الذكر الحكيم كما مرّ بنا فى الحديث عن الثقافة وشغف عمر بن يمكتن بحفظ القرآن ومراجعته فيه الجنود العرب المارّين بمنطقته حتى حفظه جميعه.

ومن المؤكد أن المدن التونسية-كما أسلفنا-أخذت فى التعرب سريعا عن طريق من نزلها من الجنود العرب طوال القرن الأول الهجرى بعد الفتح وشطرا من القرن الثانى، فهى لم تنتظر طويلا حتى يتم لها التعرب. ومما لا ريب فيه أن القيروان التى أنشأها عقبة بن نافع فى منتصف القرن الأول الهجرى لتكون معسكرا لجيشه كانت عربية خالصة منذ إنشائها، وتبعتها فى التعرب مدن تونس وسوسة وصفاقس وقابس، بحيث لا تمضى طويلا فى القرن الثانى الهجرى حتى تصبح مدنا عربية خالصة، أما فى الداخل والبوادى والجبال فقد ظل يغلب على الناس التخاطب بالبربرية طوال القرون الأربعة الأولى للهجرة.

وما نكاد نصل إلى منتصف القرن الخامس للهجرة حتى يأخذ الإقليم التونسى فى إكمال تعربه، إذ اكتسحته موجات من قبائل هلال وسليم وزغبة ورياح بأمر الخليفة الفاطمى المستنصر بالقاهرة-كما مر-للقضاء على دولة المعز بن باديس الصنهاجى انتقاما منه لخلعه تبعية بلاده للدولة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية وإعلانه استقلاله وعودة الإقليم التونسى إلى مذهب أهل السنة. واستطاعت هذه الموجات البدوية الكثيفة أن تلجئه مع أسرته للمقام بمدينة المهدية وأن تجتاح القيروان وكل الإقليم التونسى بمدنه ووديانه وجباله وبواديه، وكانوا يبلغون نحو نصف مليون نسمة وامتزجوا بالبربر وتكوّن من الشعبين شعبا عربيا تام العروبة فى اللغة والدين والزى والمطعم والعادات والأخلاق والمآتم والأعراس، واجتاحوا البلاد بإبلهم وخيلهم ورجلهم ونهبوا خيراتها عشرات من السنين، ومع كل ذلك حملوا إلى كل أنحاء الإقليم التونسى وأطرافه النائية اللغة العربية وفرضوها على البربر فرضا عن طريق الامتزاج بهم ومصاهرتهم، حتى ليقول ابن خلدون-كما مر بنا فى الفصل الماضى-عن قبيلة هوارة البربرية التونسية إنهم «صاروا فى عداد الناجعة (بنى هلال وسليم) فى اللغة وسكنى الخيام وركوب الخيل والإبل وممارسة الحروب وإيلاف الرحلتين فى الشتاء والصيف فى تلالهم، وقد نسوا رطانة البربر واستبدلوا بها فصاحة العرب فلا يكاد يفرّق بينهم» فهم قد أصبحوا-بفضل هذه الموجات البدوية من بنى سليم وهلال وزغبة-عربا فى العادات وركوب الخيل والإبل وممارسة الحروب وما ينساق فى ذلك من الملبس والمطعم والأفراح والاتراح والسلوك والأخلاق، ويقول ابن خلدون إن رطانة البربر زايلت ألسنتهم وحلت مكانها الفصحى، ونراه يقول فى موضع آخر عن

<<  <  ج: ص:  >  >>