للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتصوير الفضا وأنه ضاق بالقتلى تصوير قريب، غير أنه جعل الأرض كأنها تحولت خاتما يختم على قتلى الأعداء، ويستمر فيجعل تناثر جماجمهم ورءوسهم على التراب كأنها تنفذ للمنصور أمرا بلثمها للتراب، ويتصور ضياء سيوف جيشه فى تراقيهم كأنه تمائم، ويتسع به الخيال فيجعل أعناقهم وسط غبار الملحمة كأنها خناصر وقد أحاطت بها من بيض السيوف خواتم. وهى روعات متتابعة من الخيال البديع، وقد عقب ابن رشيق على الأبيات بقوله: «هذا كلام منتقى، ليس فوقه مرتقى». ويقول قرهب الخزاعى فى باديس بن المنصور (١):

أبنى مناد سلكتم سنن الهدى ... والعقد منكم بالوفاء معار

وكأنّ باديس المملّك فيكم ... شمس الضحى وكأنكم أقمار

راق تلاع العزّ يحمى حوزه ... حدّ البواتر والقنا الخطّار

وحدا بمدحه جازع فى مهمه ... وشدا به الحضّار والسمّار

والكلمات فى الأبيات رصينة، ولكن المعانى مطروقة فى المديح، فبنو مناد أسرة باديس يسلكون طريق الهدى، وهم أهل الوفاء، وباديس شمس وهم أقمار من حوله، وهو راق تلاع العز أى أعاليه حام لحوز ملكه ونواحيه بالأسلحة الفاتكة، وهو محبوب حتى ليحدو بمدحه فى القفار كل خائف وحتى ليشدو باسمه ويتغنى الحضّار والسمار. ولإبراهيم بن القاسم القيروانى مدائح متعدّدة فيه وسنفرده بكلمة. وكان المعز بن باديس غيثا مدرارا، حتى قيل إن الشعراء الذين مدحوه وحفّوا به بلغوا المائة عدّا، ومن رائع مدائحه قول عبد العزيز بن خلوف الحرورى (٢):

لو يستطيع لأدخل الأموات من ... نعماه فيما نالت الأحياء

سوّت رعاياه يدا إنصافه ... حتى الشوامخ والوهاد سواء

متنوع العزمات ماء مغدق ... فيهم وعنهم صخرة صمّاء

ما أنت بعض الناس إلا مثلما ... بعض الحصى الياقوتة الحمراء

فلو يستطيع المعز لنشر الأموات كى يقاسموا الأحياء من رعيته ما ينثر عليهم من نعماه، وإن يدى إنصافه لتسوى تسوية عادلة بين الأغنياء والفقراء من رعاياه، وإنه لمتنوع العزمات فهو على رعيته غيث مدرار، وهو على أعدائه صخرة صماء، وما يلبث الشاعر أن يأتى بصورة بديعة فالمعز حقا واحد من الناس إلا أنه ينفرد عنهم كما تنفرد من بين الحصى الياقوتة الحمراء.


(١) الأنموذج ص ٣٢٥.
(٢) الأنموذج ص ١٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>