وبين إمارة الحيرة وإمارة الغساسنة قامت إمارة ثالثة فى شمالى نجد كان أمراؤها يدينون-فيما يظهر-بالولاء لليمن، وهى إمارة كندة (١)، ويرجع النسابون بها-كما رجعوا بالغساسنة والمناذرة-إلى عرب الجنوب، وقد ظلت شعبة كبيرة منها تقيم فى مواطنها الأصلية بحضرموت إلى أن جاء الإسلام. وعثر على نقوش تؤكد قيام هذه الإمارة الكندية فى القرن الرابع الميلادى.
وأشهر ملوكها فى القرن الخامس حجر الملقب بآكل المرار، وقد استطاع أن يفرض سيادته على القبائل الشمالية فى نجد وأن يمد نفوذه إلى اليمامة وتخوم إمارة المناذرة، ويقال إن بكرا وتغلب دانتا له بالطاعة. وخلفه ابنه عمرو المقصور، وقد يكون فى هذا اللقب ما يدل على أن سلطانه كان محدودا، وفى عهده نقضت بكر وتغلب ولاءهما له، ولم تلبث الحرب أن استعرت بين القبيلتين أربعين عاما، وهى حرب البسوس المشهورة.
وأعقبه ابنه الحارث، وفى عهده بلغت كندة ذروة مجدها، فقد خضعت له قبائل نجد، ولجأت إليه بكر وتغلب فأصلح بينهما، وأقام على بكر ابنه شرحبيل وعلى تغلب ابنه معديكرب كما أقام على أسد ابنه حجرا وعلى قيس عيلان ابنه سلمة، وعقد محالفة بينه وبين إمبراطور بيزنطة، ووجه همه إلى الإغارة على المناذرة وزوج أخته المنذر بن ماء السماء، وانتصر فى غير موقعة. ولم يلبث قباذ ملك الفرس أن خلع المنذر وعينه واليا على الحيرة كما مر بنا فى غير هذا الموضع، غير أن قباذ لم يلبث أن توفى، فعاد ابن ماء السماء إلى الحيرة، ويقال إنه أوقع بالحارث هزيمة نكراء، قتل فيها وقتل معه أكثر من أربعين أميرا من بيته. ودس المنذر بين أبنائه، فتحاربوا وسقط شرحبيل وسلمة فى ميادين الحرب وجنّ معد يكرب، وانتقضت قبيلة أسد على حجر أبى امرئ القيس وقد حاول أن يسترد ملك أبيه ولكن المنذر كان له بالمرصاد، ففشلت محاولاته وباءت بالخذلان، ويقال إنه رحل إلى إمبراطور بيزنطة يستعين به فى محاربة المنذر خصمه، غير أنه لم يعد
(١) انظر فى كندة وأمرائها of Kinds Olinder,The Kings وتاريخ العرب قبل الإسلام لحواد على ٣/ ٢١٥ - ٢٧٣ ومحاضرات فى تاريخ العرب لصالح أحمد العلى ١/ ٦٨ وتاريخ العرب (مطول) لفيليب حتى ١/ ١١٤ وما بعدها.