للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول إن ريحانه العطر ذوى فجأة، وضاق بابنه الفرج من سقمه ومرضه، ولا يلبث أن يصرخ، فهو لم يمت حتف أنفه، بل مات ذبيحا وطلّ دمه وأهدر دون أن يقطع منه عرق العنق الذى لا تبقى مع قطعه حياة، ويعود الحصرى إلى نفسه، فالناس جميعا ميتون وكلهم راجعون إلى عرق الثّرى الذى يتشابك مع عروقهم، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم فى خلق آدم إذ قال:

{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.} ويعجب لأبناء الدنيا وقلة همهم كأنهم همج لا يعون حياتهم، ويقول إنها دار أذى وإنهم لا يلبثون حين يدخلون بها أن يخرجوا منها، بل تأمل كيف تأكلهم مع أنهم أبناؤها وكأنها هرة تلد أبناءها وتقضمهم.

ونمضى إلى العاص الحسينى ويتوفى الشيخ محمد زيتونة العالم الجليل سنة ١١٤٤ هـ‍/١٧٣١ م ويرثيه الشاعر محمد الخضراوى بمثل قوله (١):

قلب يذوب ومهجة تتقطّع ... وأسى يزيد ومقلة لا تهجع

ولهيب نيران تضرّم وقدها ... يصلى بجمرتها الحشا والأضلع

وتلهّف وبكا وفرط كآبة ... ومدامع مسفوحة لا تقلع

فعليه فلتبك الأنام جميعهم ... وعليه فليتوجّع المتوجّع

وقلب الشاعر يذوب حزنا لموت العالم الكبير ومهجته تتقطع حسرات ويزداد أسى وحزنا ويبيت مسهّدا، وكأنما اضطرم لهيب نار فى دخائله احترق حشاه وأضلعه بجمرته الموقدة، ويزيد به التلهف والبكاء والكآبه ولا تقلع الدموع بل تنهمر انهمارا لما نعى الناعى إمام العلماء وشيخ الأنام ومفزعهم فى الفتوى ومسائل الدين، وعليه فليبك الناس جميعا ويتوجعوا لفقده ويتفجعوا مرارا وتكرارا.

ويرثى محمد الورغى فى العصر الحسينى الأمير محمد الرشيد، ويجمع فى مرثيته بين التعزية فيه وتهنئة أخيه على خلفه بمثل قوله (٢):

من أين أدركه الحمام ودونه ... حزم السّلاح وحومة الحرّاس

أتغافل البوّاب أم سبقت له ... قبل الهجوم يد مع العسّاس

جهد الزمان ولو درى بمقامه ... ما ساقه قسرا إلى الأرماس (٣)

كادت عرا الإسلام تنقض بعده ... لولا مقيم الدين بالقسطاس

ما أخلق الملك العلىّ عماده ... بعلىّ الشهم النزيه الباس


(١) الأدب التونسى فى العهد الحسينى ص ٥٧
(٢) الأدب التونسى فى العهد الحسينى ص ١٧٠
(٣) الأرماس: جمع رمس: القبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>