للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مرت ترجمته بين شعراء الغزل يبكى أباه حين ودّع قبره عند رحيله إلى الأندلس (١):

أبى! نيّر الأيام بعدك أظلما ... وبنيان مجدى يوم متّ تهدّما

وجسمى الذى أبلاه فقدك إن أكن ... رحلت به فالقلب عندك خيّما

وقى الله عينى من تعمّد وقفة ... بقبرك فاستسقى له وترحّما

وقال سلام، والثواب جزاء من ... ألمّ على قبر الغريب فسلّما

وهو يخاطب أباه محزونا قائلا إن الأيام النيرة بعد فقده أظلمت وتهدم بنيان مجده وعزه يوم موته، وإن كنت راحلا عنك بجسمى الذى أضناه فقدك فإن قلبى عندك مخيم مقيم، ويدعو لمن يقف على قبره مستسقيا مترحّما مسلما راجيا أن يجزيه الله خير الجزاء. ويقول ابن بسام منشد الأبيات السالفة إن الحصرىّ لم يكتف بها فى وداعه لقبر أبيه، فقد طأطأ رأسه ومدّ يده إلى التراب حول القبر، قائلا:

رحلت وهاهنا مثوى الحبيب ... فمن يبكيك يا قبر الغريب

سأحمل من ترابك فى رحالى ... لكى أغنى به عن كلّ طيب

والبيتان مؤثران-كالأبيات السابقة-تأثيرا عميقا لكل من فقد أباه واضطر إلى فراق قبره بعد موته. وكان على الحصرى فى الذروة من شعراء القيروان المبدعين. ومات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، ونظم فيه ديوانا على حروف المعجم سماه «اقتراح القريح واجتراح الجريح» ومن قوله فيه وقد بلغ به الحزن أقصى غايته (٢):

ذوى ريحانى الأرج ... وضاق بخلّى الفرج (٣)

ذبيح طلّ منه دم ... ولم يقطع له ودج (٤)

عروق الناس كلّهم ... إلى عرق الثّرى تشج (٥)

بنو الدنيا كأنهم ... لقلة همّهم همج

وهل هى غير دار أذى ... إذا دخلوا بها خرجوا

تأمّل كيف تأكلهم ... وهم ولد لها نتجوا


(١) انظر فى رثاء على الحصرى لأبيه. الذخيرة لابن بسام ٤/ ٢٧٠
(٢) انظر فى الأبيات التالية لذخيرة ٤/ ٢٧٤
(٣) الأرج: العطر.
(٤) الودج: عرق فى العنق إذا قطع الذابح انتهت الحياة
(٥) تشج: تلتف وتعود.

<<  <  ج: ص:  >  >>