للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومات فمات سرورى به ... وصنت حياتى فمتنا جميعا

أصابته عين من الحادثات ... أصاب العمى ناظريها سريعا

وهو يقول إنه حين فارقه أخذ سروره وصبره على بعده معه، وكأنما ترك جرحا بفؤاده، ولم يلبث أن مات غريقا فمات سرور الشاعر، وكان قد صان حياته من الرحيل معه، وشعر كأنه مات معه. ويقول كأن عينا من الحادثات أصابته، ويدعو عليها بالعمى جزاء وفاقا لها، ويقول ابن رشيق تعليقا على الأبيات: «هذا هو التفجع والتوجع الذى يقطع القلوب حسرات، ويذهب العيون عبرات». وينشد من مراثيه بيتين، هما:

أودعته بطن الثّرى وتركته ... فى رمسه والموت ما لا ينكر

قدّمته ولو أننى أنصفته ... ما كنت عنه ساعة أتأخّر

فهو قد أودعه فى رمسه أو قبره ببطن الأرض. والموت حق لا أحد ينكره، ويقول كأنه قدّمه إلى الموت ولو أنه أنصفه لرافقه ولم يتأخر عنه ساعة. ويقول ابن رشيق: «هذه أنفاس مشتعلة عن نفس مشتعلة قد دلّت على ما فى الصدر دلالة الشواظ على الجمر». ويموت لابن عبدون الذى مرت ترجمته بين شعراء الغربة ابن وكانت قد ماتت قبله زوجته ويبكيهما بمثل قوله (١):

قبر بسوسة قد قبرت به النّهى ... أدرجت قلبى فى مدارج لحده

صمّت علىّ مسامعى فى رجّة ... وصعقت من صعق الصّراخ ورعده

وجهدت أن أبكى فلم أجد البكا ... فسكتّ سكتة صارم فى غمده

هبنى بكيت له وما يجدى البكا ... ماء بخدّى والتراب بخدّه

هيهات قد منع الهدوّ لناظرى ... قبران ذا ولد وذاك لودّه (٢)

وهو يقول إنه دفن النّهى والعقل السديد فى قبر بسوسة، وكأنما أدخل قلبه فى ثنايا لحده، ويقول كأنما سدّت أذناه حين سمع رجّة موت زوجه وابنه، بل لكأنما أصابته صاعقة من صعق الصراخ ورعده، وكأنما غشى عليه فلم يستطع بكاء، وأخلد إلى الصمت إخلاد سيف فى غمده، وماذا يجدى سلّ سيف فى الموت؟ وماذا يجدى البكاء وعلى خده دموعه والتراب بخد ابنه، ويقول لقد منع النوم لعينى قبران: قبر ابنى الحبيب، وقبر زوجتى المحبوبة. وقال على الحصرى الذى


(١) انظر الأنموذج ص ٣٩٤
(٢) الهدوّ بتشديد الواو: النوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>