للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بنفسى صريع جالت الخيل حوله ... بمعترك الأبطال أىّ صريع

ولست له أبكى ولكن لمعشر ... أصيبوا به من فرد وجميع

وللعلم والإسلام والدّين والتّقى ... وطول احتمال واصطناع صنيع

مضى علم العلم الرفيع وطالما ... أصابت قناة الموت كلّ رفيع

وهو يتمنى لو استطاع أن يفدى هذا الشيخ الصريع بروحه، ويتصوره والخيل تجول حوله فى معركة الأبطال، ويقول إنه لا يبكى له ولكن يبكى لخسارة معشر فجعوا فيه، كما يبكيه للعلم والإسلام والدين والتقى وطول ما أدّى واحتمل فى سبيل طلابه وأهل القيروان، وإن كان قد فقد علم العلم الرفيع فطالما أصابت رماح الموت العلماء من أمثاله. ويؤبّن ابن الخوّاص الكفيف أبو القاسم عبد الرحمن بن يحيى إمام المالكية ورياستها بالمغرب فى زمنه أبا محمد عبد الله بن أبى زيد القيروانى المتوفى سنة ٣٨٦ هـ‍/٩٩٧ م وفى تأبينه يقول (١):

كادت تميد الأرض خاشعة الرّبى ... وتمور أفلاك النجوم الطّلّع (٢)

عجبا أيدرى الحاملون لنعشه ... كيف استطاعوا حمل بحر مترع (٣)

علما وحلما كاملا وبراعة ... وتقى وحسن سكينة وتورّع

وسعت فجاج الأرض سعيا حوله ... من راغب فى سعيه متبرّع

يبكونه ولكل باك منهم ... ذلّ الأسير وحرقة المتوجّع

فالأرض تكاد تضطرب وتموج خاشعة الرّبى لهول موته، وبالمثل أفلاك النجوم الساطعة، ويعجب الشاعر متسائلا أيعرف الحاملون لنعشه أنهم استطاعوا حمل بحر ممتلئ علما وحلما وبراعة وتقى وحسن سكينة وجمال تورع، وقد اكتظت فجاج الأرض وطرقها الواسعة بالمشيعين الذين جاءوه محزونين عليه يبكونه خاشعين متوجعين ملتاعين. ويحكى غير واحد عن أبى طالب الدلائى الشاعر فى الدولة الصنهاجية أنه فقد من أحبّته نيفا وأربعين غريقا فى البحر-ربما كانوا ذاهبين إلى صقلية-فصار شعره رثاء كله تفجعا عليهم ووفاء لهم (٤)، من ذلك قوله فى أحدهم:

نأى يسرورى وصبرى معا ... وأبقى فؤادى عليه صديعا


(١) الأنموذج ص ١٥٣.
(٢) تمور: تموج.
(٣) مترع: ممتلئ.
(٤) انظر فى هذا الخبر وأبيات الدلائى الأنموذج ص ١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>