للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

به فى غياهب السجون، فيرسل إليه رسالة طويلة مستعطفا، وفيها يقول (١):

«لكرم العفو وعلوّ قدره وجليل خطره تسمّى الله عزّ وجلّ به فسمّى نفسه: (الْعَفوّ) {الْغَفُورُ} والطّبع البشرىّ مركّب على النّقص، مقرون بالزّلل. . ولست-أيّد الله الأمير-ممن يدّعى العصمة والبراءة من الهفوة، ولست أمتّ (٢) إليك إلا بفضلك علىّ، وإحسانك إلىّ. . وإن من غرس غرسا فواجب أن لا يجتثّه (يقطعه) وإن أبطأ بسوقه (٣) بل يمدّه بمدد موارده العذبة حتى تمتدّ خيطانه (٤) وتورق أغصانه. أعاذك الله-بما أودعك من معالى الأخلاق-من ترك العفو عن مقرّ معترف لا يعرف إلا فضلك، ولا يرجو إلا عدلك. . فالحظنى بعين عفوك، وأضف (٥) (أسبغ) علىّ ستر نعمتك».

ويبدو أن ذنب البريدى كان كبيرا فلم يلن له قلب إبراهيم الثانى الأغلبى ولا صفح عنه، بل أمر بقتله وسفك دمه. وتكثر الرسائل الشخصية فى عصر الدولة الصنهاجية، وسنخص إبراهيم الحصرى صاحب زهر الآداب بكلمة عنه وعن رسائله. ونلتقى بابن شرف القيروانى المترجم له بين أصحاب المراثى للمدن والدول، وكما كان شاعرا مبدعا كان ناثرا مبدعا، وقد رحل إلى الأندلس بعد ما نزل بالقيروان من طوفان الأعراب الهلاليين، كما أسلفنا، وترجم له ابن بسام فى ذخيرته ترجمة ضافية، وذكر له فصلا من رسالة خاطب بها المظفر بن الأفطس أمير بطليوس، وفيها يقول (٦):

«كتبت وشوقى إلى شرف لقياه، وشبم (٧) سقياه، شوق القارظين (٨) إلى سكون وسكنى، والقيسين إلى ليلى ولبنى. . والله ببلوغ الأمل خير كفيل، والشيخ يهدمه الشتاء وقد رأيت طوفان قرطبة يقيم دهرا، وإنما أقام طوفان نوح شهرا». ويذكر له ابن بسام فصولا نثرية يبدو أنه حبّرها للكتّاب كى ينتفعوا بها فى رسائلهم المختلفة فى مديح أمير أو وزير أو قائد أو قاض أو كاتب أو فقيه زاهد، من ذلك فصل يصلح أن يكتب به إلى حاكم أو وزير، وفيه يقول (٩):

«يقدّم الحزم، ويثنّى بالعزم، يشاور ذوى الألباب على أن رأيه لباب، يثب وثوب اللّيث،


(١) أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب (طبع الدار البيضاء) القسم الثالث ص ٣٠ وقارن بابن عذارى ١/ ١١٥ ومجمل تاريخ الأدب التونسى ص ٦٥.
(٢) أمت: أنتسب.
(٣) بسوقه: ارتفاعه.
(٤) خيطانه: فروعه.
(٥) أضف: أسبغ.
(٦) الذخيرة ٤/ ١٩٣.
(٧) شبم: بارد.
(٨) القارظان: جاهليان خرجا فى طلب القرظ (شجر) ولم يعودا.
(٩) الذخيرة ٤/ ١٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>