للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتدفّق دفوق الغيث، ويراوح بين العجل والرّيث، نومه غرار (١) واضطرار، وحاجاته سرار (٢) ثم اقتدار، لا تثبّطه الظّلل ولا الظّلال، ولا تطّبيه (٣) الكلل ولا يثنيه الكلال (التعب). رأيه قبسه (مصباحه) وعزمه فرسه، وبصيرته بصره، وصدره ورده وصدره (٤)».

وبهذه المقدرة الأدبية البديعة تتوالى هذه الفصول النثرية فى المديح للحكام والوزراء ورجال الدولة من قواد وقضاة وكتّاب، ويورد له ابن بسام فصولا أخرى فى الذم لا تقل عن الفصول السابقة فى روعتها الأدبية، وفى أول فصولها يقول (٥).

«فلان غوره أقرب قريب، وقلبه مورود القليب (٦)، فسرائره مكشوفة، ودخيلته معروفة، كتمانه إخبار، وتدبيره إدبار، رأيه وراء، وساحته عراء، حسّه هامد، وفهمه جامد، لا يعرف الرّشد من الغىّ، ولا يفرّق بين التّقبيل والكىّ، طلل بال، لا يخطر على بال، الشمس عنده سها (٧) والحمق نهى (٨). لا يعلم راسه، من أين أنفاسه، ولا يدرى دماغه، أين أصداغه».

والفصل يموج كسابقه بالسجع المختار والألفاظ المنتخبة والطباقات والجناسات وناهيك بما يحمل الفصل فى سجعه من روعة، مما يزين وقعه فى الأذن والنفس، إذ ما تزال الإرنانات متصلة فى الكلام، وما يزال جرسها يمتع الأسماع والأفئدة، مع ما يبهر من الألفاظ الثلاثية التى تطير عن الأفواه فى خفة. ويلقانا بعد ابن شرف علىّ الحصرى الذى مرت ترجمته بين شعراء الغزل، وقد ترجم له ابن بسام فى ذخيرته، وأورد له فصولا من بعض رسائل، استهلها بالفصل التالى له من رسالة (٩).

«السلام عليك أيها القلب الثانى، والبعيد الدانى، الراقى فى سماء المعالى، الواقى من داء الليالى، أول من عددت، وأفضل من أعددت، ومن لا زال النسيم فى البكر والعشيّات، يهدى إليه أطيب التحيات، ومن جعلت وقاءه، ولا عدمت لقاءه، وإذا كان الكريم سالما، كان الزمان مسالما».

وفى سجعه نفس العذوبة التى مرت فى سجع ابن شرف، وفيه الطباقات وكثير من الجناسات، ومع كثرتها لا يشوبها أى تكلف، وكأنه يستمدها من نبع فيّاض لا ينضب، وكانت قد نشبت بينه وبين ابن الطراوة النحوى الأندلسى المشهور المتوفى سنة ٥٢٨ هـ‍/١١٣٣ م خصومة


(١) غرار: قليل.
(٢) سرار: كتمان.
(٣) لا تثبطه الظلل ولا الظلال أى حياة الدعة، ومثله لا يطّبيه أى لا تستميله الكلل/الأستار/أى أنه لا يستنيم لحياة الدعة والخمول بل يقتحم المخاطر والمهالك، ويجد فى هذا الاقتحام متاعه.
(٤) صدره ورده وصدره كأنه النبع الذى يرده ويصدر عنه دون التماس رأى من أحد.
(٥) الذخيرة ٤/ ١٨٨.
(٦) القليب: البئر.
(٧) سها: نجم صغير أى أنه لا يميز.
(٨) نهى: عقل.
(٩) الذخيرة ٤/ ٢٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>