وعلى الشيخين الحصائرى والزرزالى، وعلى إمام العربية والأدب بتونس أبى عبد الله بن بحر وأشار عليه بحفظ الشعر فحفظ كتاب الأشعار الستة للأعلم وكتاب الحماسة وشعر أبى تمام وطائفة من أشعار المتنبى وسقط الزند للمعرى ولازم مجلس الحافظ ابن جابر الوادى آشىّ وسمع عليه صحيح مسلم، وكتاب الموطّأ، وأجازه إجازة عامة. وأخذ الفقه عن جماعة منهم أبو القاسم محمد بن القصير قرأ عليه كتاب التهذيب للبرادعى ومختصر المدوّنة وتفقه عليه، وفى خلال ذلك كان يحضر مجلس الإمام محمد بن عبد السلام، وعليه سمع كتاب الموطأ. ولما ملك السلطان أبو الحسن المرينى تونس سنة ٧٤٨ هـ/١٣٤٨ م أحضر معه جماعة كبيرة من علماء فاس، فاستمع إليهم وانتفع بهم، وبخاصة من الشيخ أبى عبد الله الأبلى التلمسانى تلميذ ابن البناء المراكشى، وعنه أخذ الأصلين والمنطق وسائر الفنون الحكمية والتعليمية.
وواضح من ذلك أن ابن خلدون كان-منذ نشأ-يكب على تحصيل العلوم بل يلتهمها التهاما، وقد لفت إليه معاصريه منذ حداثته، مما جعل أبا محمد بن تافراكين المستبد بالدولة بعد رحيل السلطان أبى الحسن المرينى عن تونس يستدعيه سنة ٧٤٩ هـ/١٣٤٩ م لكتابة العلامة عن الخليفة الحفصى أبى إسحاق وهى وضع كلمة «الحمد لله والشكر لله» بقلم غليظ بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مكاتبة، وفى سنة ٧٥٣ هـ/١٣٥٣ م استدعاه السلطان المرينى أبو عنان فارس لينتظم فى سلك رجال دولته، ولبّاه، فأكرم وفادته عليه، وعهد إليه سنة ٧٥٦ هـ/١٣٥٦ م بالكتابة والتوقيع بين يديه، ونفس عليه بعض من حوله هذه المكانة عند السلطان وأخذوا يدسّون عليه فاعتقله السلطان سنة ٧٥٨ هـ/١٣٥٧ م وظل فى معتقله حتى توفى سنة ٧٦٠ هـ/١٣٥٩ م وردّت إليه حريته بعد وفاته، ولحق بالسلطان أبى سالم وولاه كتابة السر والإنشاء حتى توفى سنة ٧٦٤ هـ/١٣٦٣ م ودخل بعده إلى غرناطة بالأندلس واحتفى به سلطانها ابن الأحمر ووزيره لسان الدين بن الخطيب، وتوثقت الصلة بينه وبين الوزير، وأرسله السلطان سنة ٧٦٥ هـ/١٣٦٤ م فى سفارة إلى ملك قشتالة، ونجح فى سفارته وسرعان ما أخذ أهل السعايات يفسدون ابن الخطيب عليه، وأحسّ منه شيئا من الانقباض لم يكن عهده فيه، وكانت قد وردت عليه كتب من الأمير أبى عبد الله صاحب بجاية يستدعيه، فصمم على مغادرة غرناطة وركب البحر سنة ٧٦٦ هـ/١٣٦٥ م إلى بجاية، واحتفل أميرها ورجال دولته به، وخلع عليه، وأخذ يستعين به فى تدبير حكمه، وأسند إليه خطابة الجامع، ودرّس للطلاب، وقتل وخلفه أخوه، وأحسّ بالسعايات تكثر ضده، وجاءه كتاب من السلطان أبى حمو صاحب تلمسان فى الجزائر سنة ٧٦٩ هـ/١٣٦٨ م يستدعيه-وهو بمدينة بسكرة-لحجابته، فلبّاه، وظل عنده حتى سنة ٧٧٤ هـ/١٣٧٣ م إذ استدعاه السلطان المرينى عبد العزيز ليعمل معه، وارتحل إليه، غير أنه توفى قيبل قدومه عليه، ولقيه الوزير أبو بكر بن غازى لقاء كريما، وأحسّ بدسائس تحاك ضده من