حوله، فرحل إلى غرناطة سنة ٧٧٦ هـ/١٣٧٥ م رحلته الثانية، وسرعان ما أخذ أهل الدولة بفاس يدسون ضده عند سلطانها ويحثونه على إعادته إلى تلمسان، وعاد إليها وأحسّ ريبة من أبى حمو سلطانها لتركه له وعمله مع الدولة المرينية، فخرج من تلمسان واتجه إلى أحياء أولاد عريف فى البادية فأكرموه، ومكث بينهم مع أسرته أربعة أعوام، نزل فيها مع أهله بقلعة ابن سلامة فى جبل بنى راشد وأسكنوه فيها قصرا، اختلى فيه لوضع أصول كتابه العبر ومقدمته، وأحسّ أنه محتاج إلى مطالعة أمهات الكتب فى مكتبات الدولة الحفصية فى تونس ليستعين بها فى تاريخه منقحا ومصححا وارتحل فى سنة ٧٨٠ هـ/١٣٧٩ م يريد تونس ولقى فى سوسة سلطانها.
فراجعه وذكر له أنه يريد الرجوع إلى تونس مسكن آبائه، فجهزه إليها، وعاد إلى عشّه الذى درج منه، وكان السلطان قد أمر نائبه فيها أن يهيئ له منزلا كريما مع راتب كاف. وعاد السلطان الحفصى إلى عاصمته، وأخذ يستشيره فى شئون الدولة، وطلب إليه الإكباب على تكملة تاريخه، وأكمله وأهدى الخزانة الحفصية الكبيرة منه نسخة، وأحسّ بسعايات ضده عند السلطان الحفصى فقرر مغادرة تونس متعللا بالحج وركب البحر إلى الإسكندرية سنة ٧٨٤ هـ/١٣٨٣ م ودخل القاهرة وانهال عليه طلابها يريدون الاستماع إليه، فانتصب للتدريس بالجامع الأزهر، يقرأ لهم كتاب الأصول للإمام المصرى المالكى ابن الحاجب، وأخذت شهرته تتتسع فى أروقة العلماء والأمراء، ولقى السلطان المملوكى برقوق فآنسه ووفّر راتبه، وولاّه التدريس فى المدرسة القمحية بجوار جامع عمرو أهم مدارس الفقهاء المالكية بمصر. والتمس منه ابن خلدون أن يرسل إلى الخليفة الحفصى بتونس رسالة يرجوه فيها أن يرسل إليه أسرته بحرا، وأرسلها، غير أنه لم يكتب له أن يرى أحدا من أهله، فقد غرقت السفينة بكل من كان فيها، وحزن حزنا شديدا. وكان برقوق قلّده قضاء القضاة المالكية سنة ٧٨٦ هـ/١٣٨٥ م بالإضافة إلى تدريسه فى المدرسة القمحية وكثر الشغب عليه وأظلم الجو بينه وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابه فى أهله وولده، وعظم جزعه، فاعتزم الخروج من منصب القضاء والخلوص للعبادة والتدريس، وظل مترددا، حتى إذا عرف برقوق رغبته أخلاه من هذا المنصب سنة ٧٨٧ هـ/١٣٨٦ م. ومكث بعد عزله منه نحو سنتين فى حال رفعة وعز من تردد الطلاب والعلماء ووجوه القاهرة إليه، وتوجه إلى أداء فريضة الحج سنة ٧٨٩ هـ/١٣٨٨ م فقضى النسك وعاد إلى القاهرة محفوفا بمحبة الناس وتجلّتهم له إلى أن رأى السلطان أن يقلّده القضاء ثانية فى سنة ٨٠١ هـ/١٣٩٨ م وصرف عنه فى سنة ٨٠٣. ولم يلبث أن خرج مع السلطان فرج للقاء تيمور لنك وإعصاره التتارى، وهزم فرج وجيشه بالقرب من دمشق وخرج ابن خلدون مع وفد للقاء تيمور لنك والتفاوض معه فى تسليم دمشق ووعظه وعظا طويلا استطاع به أن يفديها من النهب والسلب وما كان يأتى جيش تيمور لنك من الفظائع، وعقد صلح بين السلطان فرج وتيمور لنك. وعاد ابن خلدون إلى القاهرة واستقبل بحفاوة بالغة، وأعيد إلى القضاء فى نفس السنة، وصرف فى السنة التالية، وأعيد فيها،