وصرف سنة ٨٠٦ هـ/١٤٠٣ م وأعيد سنة ٨٠٧ هـ/١٤٠٤ م ولبّى نداء ربه-وهو قاض-فى السنة التالية.
وقد بهر ابن خلدون معاصريه ومن جاءوا بعدهم إلى اليوم بتاريخه الذى سماه:«كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر» وهو ثلاثة أقسام فى سبعة كتب، والكتاب الأول مقدمة فى الفلسفة الاجتماعية فى مجلد كبير، والكتاب الثانى فى أربعة مجلدات تتناول أخبار العرب فى المشرق، والكتاب الثالث فى مجلدين يتناولان تاريخ البربر، وهو حجة فى تاريخهم، وأيضا فيما كتبه عن تونس وصقلية والأندلس. والدافع الذى دفعه إلى كتابة مقدمة مسهبة لتاريخه ما لاحظه عند المؤرخين قبله من قبولهم كثيرا من الأخبار الزائفة او الخرافية وخضوعهم للأهواء وبعض النّحل دون تصور واضح للقوانين الاقتصادية التى تحكم المجتمعات الإنسانية، فأراد أن يقفهم على هذه القوانين ومدى سيطرتها على الظواهر الاجتماعية والسياسية، وبذلك فسر التاريخ على أسس تطور الأوضاع الاقتصادية لا على أسس تطور الأوضاع السياسية كما تصوره اليونان. والمقدمة فى ستة أبواب، أولها يتحدث عن العمران البشرى وضرورة الاجتماع الإنسانى ومن قوله فى ذلك.
«إن الاجتماع الإنسانى ضرورىّ، ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدنىّ بالطبع أى لا بد له من الاجتماع الذى هو المدنية فى اصطلاحهم، وهو معنى العمران، وبيانه أأن الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا تصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه، وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجّار وفاخورى. هب أنه يأكله حبّا من غير علاج فهو أيضا يحتاج فى تحصيله إلى أعمال أخرى أكثر من هذه: من الزراعة والحصاد والدّراس الذى يخرج الحب من غلاف السّنبل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفّى بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بدّ من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا فى الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه».
ويقول إنه إذا حصل للبشر هذا الاجتماع أو المجتمع وتم لهم العمران كان لا بد لهم من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما فى طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وهذا الوازع إما يكون بواحد منهم له عليهم الغلبة والسلطان، وإما بشرع مفروض من عند الله يأتى به واحد