بتوقيف من الله جلّ جلاله. وجميع السور ما عدا فاتحة الكتاب حديث من الله إلى رسوله وأتباعه وخصومه.
والسور المدنية بصفة عامة طويلة، وهى لا تختلف عن السور المكية من حيث الطول والقصر فحسب، بل تختلف أيضا فى المعانى التى تدور عليها. أما السور المكية فإنها تخوض غالبا فى الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده ونبذ عبادة الأوثان والأصنام والإيمان بالبعث والحساب، فمن عمل صالحا فله الجنة والنعيم، ومن عمل سيئا فله النار والجحيم. وتتخلل ذلك الموعظة الحسنة والقصص عن الأمم الماضية والقرون الخالية والحث على التمسك بأهداب الفضيلة ودعوة العقل إلى التدبر فى خلق السموات والأرض، فإن من تدبر فى هذا الخلق عرف أنه لا بد له من صانع أحكم نظامه وأقام ميزانه. أما السور المدنية فإنها تفصّل القول فى العمل الصالح الذى ينبغى على المسلم أن يقوم به، ومن ثمّ كان يكثر فيها التشريع الدينى وكذلك التشريع الاجتماعى بكل ما يتصل به من نظم الأسرة كالميراث والزواج والطلاق وبرّ الوالدين ونظم المجتمع كالبيع والشراء والرهن والمداينة وقسمة الغنائم والزكاة وتحرير الرقيق، مع بيان بعض العقوبات ووجوه التحليل والتحريم. وفى تضاعيف ذلك تذكر العبادات وتتردد الدعوة إلى التوحيد والبعث والحساب والثواب والعذاب والإيمان بالكتب السماوية.
ودعت الحاجة منذ نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تفسير بعض آياته، فكان الصحابة يرجعون إليه ليفسّر لهم بعض ما يتوقّفون فيه، وكان هو أحيانا يبادر فيبيّن لهم بعض الآيات، يقول جلّ ذكره: {(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)} ويقول: {(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَاِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ).} وتدل الآية الأولى دلالة واضحة على أن الرسول كان يبين للناس الأحكام القرآنية أمرا ونهيا، فهو المفسر الأول لأوامر الله ونواهيه. وتدل الآية الثانية على أن فى القرآن آيات تحتاج تأويلا، وهى تصرّح بذلك فى وضوح.