مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل، وجبروه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب (المحسنات) البديعية». وهو يضم إلى مهاجمة الأسجاع فى المكاتبات السلطانية مهاجمة المحسنات البديعية التى أكثر منها المتأخرون، وعاد إلى هذه المهاجمة فى الفصل الذى عقده فى المقدمة بعد ذلك للمطبوع والمصنوع من الكلام، وقال إن تلك المحسنات تغلب اليوم على أهل العصر، وأصحاب الأذواق فى البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون ويعدون ذلك من القصور عن سواه وليس بين أيدينا رسائل ديوانية لابن خلدون إلا ما ذكره فى كتابه:
«التعريف» من فصل فى رسالة أرسل بها إلى ملك المغرب أبى سعيد عثمان بن أحمد المرينى يخبره فيه بأحوال تيمور والتتار منذ جنكيزخان وفيه يقول:
«كنت فى العام الفارط توجهت صحبة الرّكاب السّلطانى (الناصر فرج) إلى الشام عند ما زحف الطّطر إليه من بلاد الروم (آسية الصغرى) والعراق مع ملكهم تمرو استولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك وخرّبها جميعا، وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه، ونهض السلطان فى عساكره لاستنقاذها، وسبق إلى دمشق وأقام فى مقابلته نحوا من شهر، ثم قفل راجعا إلى مصر، وتخلّف الكثير من أمرائه وقضاته، وكنت فى المخلّفين، وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عنى، فلم يسعنى إلا لقاؤه، فخرجت إليه من دمشق، وحضرت مجلسه، وقابلنى بخير، واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق، وأقمت عنده خمسة وثلاثين يوما، أباكره وأراوحه، ثم صرفنى وودّعنى على أحسن حال، ورجعت إلى مصر. . ثم رجع آخرا إلى بلاده، والأخبار تتصل بأنه قصد سمرقند، وهى كرسيّه (عاصمة ملكه) -والقوم فى عدد لا يسعه الإحصاء، إن قدّرت ألف ألف (مليون) فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن خيّموا فى الأرض ملئوا السّاح (الساحات) وإن سارت كتائبهم فى الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء، وهم فى الغارة والنهب والفتك بأهل العمران وابتلائهم بأنواع العذاب على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب، وعلى عادة بوادى الأعراب».
والفصل-على هذه الشاكلة-مكتوب بأسلوب مرسل دون أى تكلف لسجع أو لمحسن بديعى. وكان يستخدم هذا الأسلوب فى رسائله الشخصية على نحو ما يتضح فى رسالة أرسل بها إلى لسان الدين بن الخطيب ردا على رسائله الموشاة بالسجع والبديع، وقد دون الرسالة ورسائل ابن الخطيب فى كتابه:«التعريف» ويقول ابن خلدون إنه تفادى فى رسالته السجع خشية القصور عن مساجلة ابن الخطيب فى رسالاته المسجوعة، وهى مجاملة لابن الخطيب، والحقيقة أنه نحىّ السجع عن كتاباته فى الرسائل الشخصية والديوانية جميعا، ودعا الكتّاب- إلى ذلك-كما أسلفنا-فى مقدمته غير أنهم ظلوا لا يستمعون إليه فى جميع البلدان العربية، إلى أن تحررت الكتابات ديوانية وغير ديوانية من السجع والمحسنات البديعية بمصر فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتبعتها البلدان العربية.