والباب السادس مقصور على العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه، ويتحدث عن العقل التجريبى وعلوم الأنبياء وأن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب وأن العلم والتعليم طبيعيان فى العمران البشرى وأن العلوم إنما تكثر حين يكثر العمران وتعظم الحضارة، ويفيض فى الحديث عن أصناف العلوم بادئا بالعلوم الإسلامية: علوم القرآن من التفسير والقراءات وعلوم الحديث وعلوم الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلم التصوف ومذاهب الوحدة والحلول فيه، ويتسع بالحديث فى علوم الأوائل من الحساب والهيئة والمنطق والطبيعيات والطب والفلاحة وعلم الإلهيات وعلم الكيمياء والفلسفة عارضا فى كل علم تاريخه وأشهر أعلامه. وينتقل إلى علوم اللسان العربى:
علم النحو وعلم اللغة وعلم البيان وعلم الأدب ويقول «إنه لا موضوع له ينظر فى إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهى الإجادة فى فنى المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، ويقول إن لغة العرب من أهل الحضر والأمصار لزمنه مغايرة أو مخالفة للغة مضر الفصحى، إذ اتخذ كل مصر وكل بلد لنفسه لغة عامية عربية مستقلة به، ويتحدث عن صناعة الشعر والنثر وأشعار العرب والأمصار لزمنه والموشحات والأزجال وغيرهما من فنون الشعر المستحدثة كالمواليا. وبذلك كله وضع ابن خلدون فى مقدمة تاريخه لأول مرة فى تاريخ الفكر الإنسانى علم الاجتماع بأركانه وقواعده وقوانينه أو كما يسميه علم العمران البشرى سابقا بذلك علماء الغرب الذين لم يعنوا به بعده إلا بنحو أربعة قرون، وهو بحق عبقرىّ فذّ لا لتونس وحدها بل للعرب جميعا فى كل مكان وزمان.
وواضح من حياة ابن خلدون أنه عمل بدواوين حكام مختلفين، وهو بذلك يعدّ من كتّاب الدواوين، وكان السجع قد شاع فى كتاباتهم بحيث لا يكتبون رسالة ديوانية إلا مسجوعة سجعا تاما، وليس ذلك فحسب، بل كانوا يضيفون إلى السجع المحسنات البديعية، ورأى أن ينحى هذه الطريقة عن كتابته الديوانية، وأن يكتب بالأسلوب المرسل محاكيا عبد الحميد الكاتب والجاحظ وأضرابهما من قدماء الكتاب البلغاء، ويصرح بذلك فى كتابه: «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، إذ يقول فيه: «لما استعملنى السلطان أبو سالم [المرينى] فى كتابة سرّه والترسيل عنه والإنشاء لمخاطباته كان أكثرها يصدر عنى بالكلام المرسل دون الأسجاع لضعف انتحالها وخفاء العالى منها على أكثر الناس بخلاف الكلام المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا بين أهل الصناعة». ونراه فى المقدمة يهاجم الكتابة الديوانية المسجوعة بعنف فى الفصل الذى عقده لانقسام الكلام إلى فنى النظم والنثر، ويقول: «استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه فى المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفية. . واستمروا على هذه الطريقة واستعملوها فى المخاطبات السلطانية. . وهجروا المرسل وتناسوه. . ووجب أن تنزّه المخاطبات السلطانية عنه. . والمحمود فيها الترسل، وأما إجراؤها على هذا النحو المقفى فمذموم، وما حملهم عليه إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطائهم الكلام حقّه فى