قوله تعالى:{هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ.} ولعل فى ذلك ما يؤكّد مرة أخرى أن غزو صقلية وفتح بلدانها إنما كان جهادا فى سبيل الله ونشر دينه الحنيف. وبمجرد أن استمع الجند إلى هذه الآيات الكريمة وارتسم أمامهم الفردوس وما أعدّ فيه للمجاهدين امتلئوا حماسة وانقضّوا على أعداء الله ودينه الحنيف، فانهزموا انهزاما ساحقا، وأصبحت مدينة طبرمين أمام جيش المسلمين مفتّحة الأبواب ولا حامى ولا مدافع، وارتعدت فرائص إمبراطور بيزنطة كما روى ذلك ابن الأثير وابن خلدون وأعلن فى القسطنطينية الحداد سبعة أيام لم يضع فيها على رأسه تاج الملك. وسار إبراهيم بن الأغلب توا إلى مدينة رمطة آخر معاقل الروم شرقى الجزيرة جنوبى طبرمين، ففتحوا له أبوابها سريعا واستولى عليها دون قتال. ولم تكف إبراهيم بن الأغلب هذه الانتصارات، فقد ركب البحر مع جنده من مسينى إلى شبه جزيرة قلوريّة جنوبى إيطاليا، واخترقها بجنده مستوليا فيها على كثير من الحصون، ونصب الحصار على قلعة كشنتة (Consenza) المنيعة شمالى قلورية وضيق عليها الحصار، غير أن مرضا ألم به فى أثناء ذلك، فأسلم روحه إلى بارئها تحت أسوار هذه القلعة، ونقل رفاته إلى بلرم ثم نقله ابنه أبو العباس إلى القيروان.
ولعل فى كل ما قدمت ما يصوّر الدور التاريخى المجيد الذى نهضت به الدولة الأغلبية فى القرن الثالث الهجرى الذى ظلّ فيه صولجان الحكم بإفريقية التونسية فى يدها، فقد أضافت إلى البقاع الإسلامية جزيرتين كبيرتين: صقلية ومالطة، وظلت تجاهد فى سبيل الله بصقلية وتعدّ الأساطيل لمنازلة الأسطول البيزنطى وتنكّل به وتمزّق سفنه شر ممزق. وبدأت تلك الحرب بشارة تميزها وأنها حرب جهاد ونشر للإسلام، إذ كان قائد الحملة شيخ الإسلام وإمام المالكية وقاضى قضاتها أسد بن الفرات، وكان يشترك فى هذا الجهاد غير واحد من أمراء الدولة الأغلبية، حتى إذا أوشكت شمس دولتهم على الغروب خلع إبراهيم بن الأغلب زىّ الإمارة والسلطان ولبس زىّ الزهاد المجاهدين فى سبيل الله، وأبلى فى الجهاد بصقلية وقلوريّة بلاء عظيما.