النورمان مع استيلائهم على صقلّية، ولغتها إلى اليوم لهجة عربية تونسية محرفة حرّفت بمر الزمن، وعبثا حاولت الدول التى استولت عليها-ومعها إنجلترا-أن تترك لغتها كما تركت الإسلام وتتخذ فى ألسنتها مكانها اللغة الإيطالية أو اللغة الإنجليزية، وباءت كل هذه المحاولات فى القرون الثمانية الماضية بالفشل، مما يدل على قوة العربية وحيويتها، وأن قوما إذا اتخذوها لا يمكن أن يتحولوا عنها-مهما دخل عليها من التصحيف والتحريف خلال قرون متطاولة- إلى لغة أخرى لسلاستها وعذوبة جريانها فى الألسنة.
ويتوفّى خفاجة وابنه محمد، وتؤول ولاية صقلية إلى أحمد بن عبد الله الأغلبى، وكان بطلا مقداما فصمم على فتح سرقوسة، وكانت بيزنطة لا تزال ترسل إليها بالنجدة تلو النجدة، وكلما انهزم لهم أسطول جهزوا لها أسطولا آخر، وحاصرها أحمد، واستمر الحصار تسعة أشهر من أوائل المحرم إلى أواخر رمضان سنة ٢٦٤ هـ/٨٧٧ م ثم اقتحمها بمجانيقه وخيله وجنده، فاضطرت إلى التسليم بعد أن ذاقت الأمرّين من الجوع وذكّ الأسوار وسقوط القلاع، وبعد أن لقى حتفه من المدافعين عنها أكثر من أربعة آلاف جندى بيزنطى. وولى صقلية سنة ٢٦٨ هـ/٨٨١ م محمد بن الفضل فجعل همه القضاء على معقل مهم للروم هو قلعة الملك وكان من فيه يكثرون من الإغارة على المسلمين ويقضّون مضاجعهم، والتقى الجمعان بقرب المعقل وحمى وطيس الحرب وانجلت عن انتصار عظيم للمسلمين واندحار شديد لأعدائهم إذ قتلوا منهم ما يزيد عن ثلاثة آلاف ودخلوا القلعة تخفق على رءوسهم رايات النصر.
وولّى إبراهيم بن الأغلب ابنه عبد الله على صقلية، وفى أيامه سنة ٢٧٥ نشبت معركة عنيفة برّا وبحرا بين الروم والعرب، فإن الدولة البيزنطية أرسلت بأسطول ضخم إلى صقلية، ولقيه الأسطول الإسلامى الصقلى واحتدمت المعركة، وكانت كارثة الروم هائلة وإذ قتل منهم سبعة آلاف وغرق خمسة آلاف ولاذ من كتبت له الحياة بالفرار. وانتهز المسلمون هذه الفرصة من النصر على الأسطول البيزنطى، وهاجموا قلوريّة فى جنوب إيطاليا تأديبا لمن يحشدهم الروم فيها لإمداد حاميات المدن والحصون التى لم يستسلم من فيها للمسلمين.
وفى سنة ٢٨٩ هـ/٩٠١ م استدعى الأمير إبراهيم بن الأغلب ابنه عبد الله والى صقلية وتنازل له عن صولجان الحكم فى القيروان وإفريقية التونسية، وصمم على أن يقضى بقية أيامه مجاهدا فى صقلية، واتجه إلى سوسة فى ثوب مرقّع علامة الزهاد، وأبحر منها على رأس جيش قوى إلى بلرم، وكان قد أعدّ إعدادا قويا بالأسلحة والعتاد، وسار على رأسه لغزو مدينة طبرمين شرقى الجزيرة إلى الشمال أمنع المراكز التى لا تزال باقية للروم فى الجزيرة، وكانوا لا يزالون يرسلون إليها بالإمدادات. وهاجمها ودارت رحى الحرب عنيفة بين الفريقين. وأحسّ شيئا من التخاذل فى صفوف جيشه لاشتداد وطيس الحرب فجمعهم، وأمر قارئا أن يقرأ عليهم بصوت مرتفع