وطبيعى أن يكون للزهد والتصوف مسارب فى الحياة بصقلية الإسلامية، وكان القضاة والفقهاء فى طليعة من يمثلون الزهد والتقشف والانصراف عن متاع الحياة طلبا لما عند الله من ثواب الآخرة، ونلتقى فى أول نزول المسلمين فى صقلية بقاضيها ابن أبى محرز، وكانت تضرب بعدله ونزاهته وتقواه الأمثال، وكان قد عاد إلى القيروان قبيل وفاته، فأوصى عمر أخاه أن يكتم خبر موته حين ينزل به القضاء، خوفا من أن يكفّنه ويدفنه الأمير الأغلبى وينفق ثمن ذلك عليه من بيت مال المسلمين، فيلقى الله وعليه من مال المسلمين شئ، وأنفذ أخوه وصيته، وتعجب الناس من ورعه حتى فى موته. ويذكر صاحب رياض النفوس عن القاضى أبى عمرو ميمون بن عمر المتوفى سنة ٣١٦ هـ/٩٢٩ م أنه ولى قضاء صقلية، فاجتاز بمدينة سوسة، فقال:
يا أهل سوسة انظروا هذا كسائى وهذه فروتى وهذا خرج فيه كتبى وهذه الجارية السوداء تخدمنى ومعها جبّة وكساء، فبهذا رحلت عنكم، فانظروا بأى شئ أرجع. فلما وصل إلى بلرم قالوا له: هذه دار القضاء (وكانت واسعة) تنزل فيها، فتركها ونزل فى دويرة (صغيرة) لطيفة، وكانت الجارية السوداء تغزل وتبيع غزلها وتنفق عليه من فضل ذلك. ومرض ولم يخرج ثلاثة أيام فدخلوا عليه لعيادته فوجدوا عند رأسه وسادتين محشوّتين تبنا وتحته حصيرة من البردى. وعاد إلى بلده عن طريق سوسة فاستقبله بعض أهلها، فقال: يا أهل سوسة كما غادرناكم نعود إليكم: هذه جبّتى وكسائى وخرجى فيه كتبى، وهذه السوداء تخدمنى.
والقاضيان: ميمون وابن أبى محرز مثلان رائعان لمن كان يزهد من أهل صقلية وقضاتها وفقهائها فى متاع الحياة مكتفيا بأقل القليل من عيشته راضيا بحياة التقشف بل واجدا فيها متاعه فليس له مأرب سواها، وممن يمثل ذلك من أهل صقلية ما رواه المالكى فى رياض النفوس عن أبى الحسن الصقلى الحريرى من أنه قضى عمره-أو شطرا كبيرا منه-صامتا لا ينطق إلا بذكر الله تعالى أو بما يعنيه، فإذا أقيمت الصلاة تأوّه وتواجد وقال:«وا ذهاب عمرى فى خسارة». وقد ظل الزهد فى صقلية الإسلامية فرديا، ولم يتحول إلى حركة واسعة بحيث تنشأ عنه حركة صوفية، وحقا قد يوصف بعض الصقليين بأنه صوفى دون أن يعنى الوصف بذلك الحقيقة الصوفية إنما يعنى العبادة، وربما كان الشخص الوحيد الذى يمكن أن يسلك هناك فى عداد الصوفية هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله البكرى الذى حجّ وسمع العلماء بمكة سنة ٣٥٠ هـ/٩٦١ م ويوصف بأنه «إمام الحقيقة وشيخ أهل الطريقة» وله مؤلفات مختلفة تدل على أنه كان ينزع نزعة صوفية، منها:«الأنوار فى علم الأسرار ومقامات الأبرار وصفة الأولياء ومراتب أحوال الصفاء والشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل التسترى».
وبدار الكتب المصرية منه مخطوطة فى ستة أجزاء وعبد الرحمن فيه فقيه يتمسك بمذهب أهل السنة مستشعرا دائما القرآن الكريم والسنة النبوية، والكتاب إلى أن يكون زهدا وتقشفا فى الحياة أقرب منه إلى أن يكون تصوفا بالمعنى الدقيق. وظل التصوف بعد البكرى فى صقلية