التونسية وأدخلتها إلى صقلية، فكان يصنع لها فيها الكاغد أو الطوامير لكتاباتها الرسمية، وما فضل عن حاجتها يفتله صنّاع حبالا للمراكب ولغيرها. واجتازت صناعة الطوامير من مضيق مسّينى إلى سالرنو Salerno بإيطاليا وتغلغلت-فى عهد النورمان-إلى الشمال ومدينة نابولى، واجتازتها إلى أوربا الوسطى وألمانيا وهو فضل كبير لمسلمى صقلية على الحضارة الإنسانية، فلولاهم ما عرفت ألمانيا الورق ولا صناعته، ولا أتيح فيما بعد-لعالمها الفذ «جوتنبرج» -اختراع الطباعة.
ولا ريب فى أن صناعة صقلية الإسلامية المزدهرة وازدهار إنتاجها الزراعى أهّلها لأن تزدهر بها التجارة، وقد مرت بنا كثرة الأسواق فى بلرم حتى لتبلغ نحو ثلاثين سوقا، وكان بسوق القصابين أو الجزارين وحدهم-كما مرّ بنا-نحو مائتى محل أو دكان. وأتاح ذلك لصقلية ثراء واسعا، أما ما يقوله ابن حوقل من فقر أهلها فكان داعية للفاطميين ووجد عامّة الناس هناك تنفر من العقيدة الفاطمية وتتعلق بمذاهب أهل السنّة فحمل عليهم، ولم يحمل عليهم من ناحية ما وصمهم به من الفقر المادى فحسب فقد حمل عليهم أيضا من ناحية الفقر الخلقى، فوصفهم بالخبث واللؤم وقلة الذكاء ونقص المروءة وشدة الجهل، وهو متّهم فى كل ما وصفهم به من الناحية الخلقية وأيضا من الناحية الدينية فقد رماهم بضعف دينهم لأنهم-فى رأينا-لا يدينون بالمذهب الفاطمى الإسماعيلى، بينما يصفهم غيره بنظافة الثياب وحسن الصور إلى مروءات ظاهرة وعشرة حسنة. والحق أن ابن حوقل فى ذلك كله مغرض، ومن يقرأ وصف مدنها عند الإدريسى يراه يشيد بقصورها وبساتينها وأسواقها مبهورا بما فيها من حركة تجارية واسعة لا فى بلرم وحدها بل فى كل المدن التى زارها وخاصة مسينى وقطانية وسرقوسة ونوطس وجرجنت ومازر وأطرابنش، وإذا كان الإدريسى زارها فى العصر النورمانى فإننا نجد أمارى ينقل فى المكتبة الصقلية عن الراهب ثيودوسيوس-وكان قد أسر فى سرقوسة بالقرن التاسع الميلادى سنة ٢٦٥ هـ/٨٧٨ م زمن الأغالبة ونقل منها إلى بلرم-أنه تحدث بإعجاب عما شاهده من القصور فى المدينتين كما تحدث عن أسواق بلرم وكثرة من فيها من جميع الأجناس الأوربية والإفريقية والآسيوية، ويقول نوبل دى فرجى فى كتابه «العالم» إن تجارة صقلية بلغت أيام المسلمين ازدهارا عظيما لم تدركه فى تاريخها لا قبلهم ولا بعدهم. وعلى الرغم من عوادى الأيام على قصور المسلمين ومساجدهم ومبانيهم فيها لا تزال فى بقاياها وأروقتها الباقية ما يشهد بأن شعبا عظيما سكن تلك الجزيرة وشاد فيها روائع من القصور والأبنية الفخمة برخامها وفسيفسائها ونقوشها البديعة، مما بهر فون شاك وتجرد له سنوات طوالا يصفه فى كتابه: الفن العربى فى إسبانيا وصقلية. ومن القصور المشيدة التى خلفها المسلمون ببلرم قصر العزيز الذى بناه الأمراء الكلبيون وقصر القبة وقصر المنصورية وقصر الفوارة شرقىّ بلرم، وسنذكر طرفا مما نظمه فيها بعض الشعراء فى غير هذا الموضع.