جيشه وأسطوله، ومع ذلك فقد فرض عليهم-كما فرض على مسلمى الجزيرة عامة-أن يدفعوا جزية، ولم يتنبّه إلى أن المسلمين لم يكونوا يفرضونها ضريبة عامة على الرءوس من حيث هى ضريبة، وإنما كانوا يفرضونها على غير المحاربين ضريبة دفاع عنهم، ولذلك لم يكونوا يفرضونها على القساوسة والرهبان والعجزة والنساء والأطفال، فهى ليست عندهم ضريبة اضطهاد، إنما هى ضريبة دفاع لجيش المسلمين الذى يحمى النصارى ويحارب دونهم، نصيبا مما يحتاج إليه فى حربه من المؤن وعدّة السلاح، أما هو فجعلها ضريبة اضطهاد عامة، مع استخدامهم فى الجيش والأسطول والدفاع عن الجزيرة. وكان ابنه الملك روجّار الثانى قد نشأ نشأة صقلية عربية، فإن اللغة النورمانية لم يكن بها علم ولا فلسفة ولا فكر ولا أدب، فاضطر أبوه إلى تعليمه العربية اللغة المتحضرة، وتنفّس فى الحضارة الإسلامية التى كانت مسيطرة على الجزيرة بروحها وتقاليدها، وأخذت هذه الحضارة تؤثر فى حياة النورمان الغالبين كما أخذوا يفيدون من نظمها وتراتيبها الإدارية، وبالمثل من شئون الزراعة والصناعة والجيش، وفيه يقول ابن الأثير: «سلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب (ما يركبه) والحجاب والسّلاحية والجاندارية وغير ذلك، وخالف عادات الفرنج فى ذلك كله فإنهم لا يعرفون شيئا منه، واتخذ الملك روجّار الثانى ديوان المظالم الذى كان شائعا عند الحكومات الإسلامية الصقلية فنقله عنهم كما نقل عنها ديوان التحقيق وديوان الجزية وديوان الصناعة، ومنه يتفرع ديوان الطراز الخاص بالمنسوجات المطرزة بالذهب وغيرها، وأيضا ديوان المستغلات من تجارة الموانى الصادرة والواردة وصيد البحر. وكان فى بلاطه. نفر من علماء العرب ومفكريهم وأرباب الأدب والصناعة، وكان هناك ديوان عام ينظر فى أمور الدولة اشترك فيه بعض العرب. وخلفه ابنه الملك غليوم الأول، وكان قد تعلم العربية وحذقها مثل أبيه، ويقال إنه كان يعتمد فى كثير من المهمات على مسلمى صقلية، وإنه فتح فى وجوههم مناصب الدولة يتولونها وقرب منه بعض العلماء المسلمين وبعض رجال الأدب والفكر. وقد دفع هو وأبوه النورمان إلى اقتباس الفنون والعلوم والعناصر الأساسية للحضارة الإسلامية، فتحضروا بعد أن كانوا قوما متبدّين ونقلوا حضارتهم إلى إيطاليا فكانت بذلك من أسباب انبعاث النهضة الإيطالية بها فى القرن الخامس عشر قبل غيرها من الأمم الغربية، وهو تأثير عميق لصقلية الإسلامية فى النهضة الأوربية الوسيطة، وينقل الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب عن دى سلان وصف البلاط النورمانى فى عهد غليوم الأول وأبيه روجار الثانى إذ يقول: «إن كل شئ فى البلاط النورمانى أصبح يذكّر بالعادات والتقاليد الشرقية من حجّاب وغلمان وعبيد إلى خصيان (سود وبيض) وقيان وعازفين، ومن حريم إلى مراسم وتشريفات». ولم تكن اللغة العربية لغة التخاطب فحسب، بل كانت أيضا لغة الثقافة، وكانت المراسيم تصدر عن الديوان الملكى باللغة العربية ثم تنقل إلى اللاتينية أو اليونانية، كما كانت النقود منقوشة بالخط الكوفى» ومرّ ابن جبير بالجزيرة بعد عودته من الحج فى أيام غليوم