الأول حوالى سنة ٥٨٠ هـ/١١٨٤ م فنوّه بأنه يتخذ من فتيان مسلمين مجابيب حجّابه ووزراءه وعيون دولته وعمالته فى الجزيرة، ويقول إنه كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم فى أحواله والمهم من أشغاله وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم. ويقول إن أهل دولته من المسلمين يلح عليهم رونق ملكه، لا تساعهم فى الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة، وما منهم إلا من له الحاشية والعبيد والأتباع، ويقول عن غليوم الأول:«ليس فى ملوك النصارى أترف فى الملك ولا أنعم ولا أرفه منه، وهو يتشبه بملوك المسلمين فى الانغماس فى نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته، ويذكر ابن جبير حين مرّ ببلده أنه كان فى نحو الثلاثين سنة من عمره وأنه يتقن العربية قراءة وكتابة، والعلامة التى يضعها على رأس مناشيره ورسائله: «الحمد لله حق حمده» وكانت علامة أبيه روجّار الثانى: «الحمد لله شكرا لأنعمه». ومما يدل على مدى انغماس النورمان فى الحضارة الإسلامية التى كانت منبثّة فى الجزيرة أن زىّ النساء النصرانيات فى بلرم كان نفس زى النساء المسلمات، ويقول ابن جبير إنهن فصيحات الألسن بالعربية الشريفة طبعا (اللغة الأولى فى الجزيرة حينذاك) وإنه رآهن فى عيد الفطر قد خرجن فيه ولبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف (الملاءات وما يشبهها) الرائقة وانتقبن بالنّقب الملونة (أى أنهن كن محجبات تماما مثل المسلمات) وانتعلن الأخفاف المذهبة، وبرزن لكنائسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلى والتخضب والتعطر».
ومن دلائل الانغماس الواضح فى الحضارة الإسلامية لعهد غليوم الأول ما يذكره ابن جبير من أن جواريه وحظاياه فى قصره كنّ مسلمات جميعهن، وأن الجارية النصرانية من الفرنجيات إذا وقعت فى قصره أصبحت مسلمة بفضل من فيه من الجوارى المسلمات. ولم يكن غليوم ولا أبوه يتعرضان-فيما يظن-لأداء شعائر من فى بلاطهما وبلدتهما أو عاصمتهما بلرم من المسلمين، وربما كان تسامح غليوم فى هذا الجانب أقوى وأوسع من تسامح أبيه فقد كان من فى بلاطه من الفتيان يصوم الأشهر تطوعا وطلبا للأجر والثواب، وكان إذا دخل وقت الصلاة يخرجون من مجلسه فرادى فيؤدونها، وهو لا يتعرض لهم أى تعرض. ويقول ابن جبير إن بلرم كانت غاصة بالمسلمين ولهم فيها أرباض أو ضواح ينفردون فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، ويقول إن لهم مساجد يعمرونها ويقيمون الصلاة فيها بأذان مسموع، وإن لهم قاضيا يتقاضون أمامه، ويذكر أن المساجد كثيرة، وكان يحفّظ فى أكثرها القرآن. على أنه يعود فيذكر أن صلاة الجمعة كانت محرّمة على سكان بلرم-كما مرّ بنا-بسبب الخطبة الدينية التى تسبقها إذ كانت محظورة عليهم.
وحرى بنا أن نتوقف لنعود إلى المقالة الشائعة بين المؤرخين، من أن النورمان عاملوا مسلمى