صقلية معاملة حسنة وأنهم سمحوا لهم بحرية العقيدة مستدلين على ذلك بما يقول ابن جبير وغيره عن بلاط روجار الثانى وغليوم الأول من أنه كان بلاطا عربيا إسلاميا فى نظر أمراء المسيحية، وهو إنما كان كذلك بحكم تبدّى النورمان وشعور هذين الملكين بحاجتهما وحاجة شعبهما إلى تشرب الحضارة الإسلامية العربية، ولذلك أحسنا معاملة المسلمين وسمحا لهم-على الأقل فى بلرم-بإقامة شعائرهم الدينية والأذان والصلاة فى المساجد، وبالمثل سمحا بذلك لمن شعرا بحاجتهما إليه فى بلاطهما وحياتهما من الفتيان ومن الجوارى والحظايا. أما بعد ذلك فكانت المسألة تتوقف على كثرة المسلمين فى البقاع والمدن، فقد اتجه ابن جبير بعد زيارته لبلرم إلى زيارة مدينة طرابنش، ولا حظ أن جميع سكان الطريق بين المدينتين مسلمون يفلحون الأرض فى ضياع ومحارث ومزارع متصلة، واقترب من مدينة ثرمة فى الشمال، وكان الإعياء قد أخذ منه فبات بقصر قريب منها داخله مساكن وعلالى مشرفة، وهو كامل مرافق السكنى، وفى أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء، وبات فيه أحسن مبيت وأطيبه وسمع أذان الفجر-وكان قد طال عهده بسماعه كما يقول-وأكرمه القائمون عليه وصلّى به الفريضة والتراويح إذ كان فى رمضان، وأكبر الظن أنه كان محرسا للمدينة وبنى على شاكلة المحارس فى الساحل التونسى، وانتهى إلى طرابنش ورأى ما للمسلمين والنصارى فيها من مساجد وكنائس، ورأى المسلمين يصلون يوم العيد بالطبول والبوقات وعجب من ذلك.
وقبل أن نستمع إلى ابن جبير فيما ذكره بتلك البلدة من الفتنة فى الدين الحنيف نتوقف قليلا عند سياسة الملك، روجار الثانى، فقد ظل معتمدا لإجراءات الإقطاع التى فرضها أبوه روجار الأول فى البلاد والحصون التى فتحت عنوة، ولما هاجم أسطوله الساحل التونسى واستولى على مدينة بونة (عنابة) ترك أميره فيليب جماعة من العلماء والنسّاك يخرجون منها إلى القرى المجاورة بأهليهم وأموالهم، فلما عاد قبض عليه لرفقه وحسن صنيعه بجماعة من المسلمين وجعل الأساقفة والقسس والرهبان يحاكمونه فحكموا عليه حكما ظالما بحرقه، كما نص على ذلك التجانى فى رحلته. فلم يكن روجار الثانى يؤمن بحرية العقيدة كما يحلو لمؤرخى الغرب- وتابعهم مؤرخو العرب-القول بذلك. ونفس غليوم الأول الذى أشاد ابن جبير بمعاملته لمن فى بلاطه من المسلمين ومن فى قصره من الجوارى والحظايا المسلمات حدثت مذبحة للمسلمين ببلرم فى أيامه، إذ أمر وزيره مايون بنزع السلاح من أيدى المسلمين سنة ٥٥٦/ ١١٦٠ م فثار المسلمون ضد هذا الأمر، وانتهز المسيحيون الفرصة فسفكوا دماء كثيرين منهم فى شوارع بلرم وفى الدواوين والحوانيت والفنادق كما سفكوا دماء جماعة ممن كانوا فى القصر، وقتل فى هذه الواقعة الشاعر القفصى يحيى بن التيفاشى كما قتل-فى ظن أمارى-الإدريسى الجغرافى، وهو ما يؤكد أن استخدام غليوم الأول للمسلمين فى القصر إنما كان ضرورة حضارية، اضطرته إليها الحضارة الإسلامية التى قهرته وقهرت شعبه. ومرت بنا-منذ قليل-أخبار عن ابن جبير