للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم تلبث أضواؤها أن انتشرت فى الجزيرة العربية، وسرعان ما بزغت على دروب العالم ومسالكه من أواسط آسيا إلى جبال البرانس مما هيأ لانقلاب واسع فى تاريخ اللغة العربية وأدبها، ونجمل ذلك إجمالا. فإن تفصيله لا يتسع له كتاب فضلا عن صحف معدودة.

وأول ما كان من آثار القرآن الكريم أنه جمع العرب على لهجة قريش، وحقّا كانت هذه اللهجة تسود القبائل الشمالية فى الجاهلية، غير أن هذه السيادة لم تكن تامة، فقد كان الشعراء هم الذين يستخدمونها غالبا، أما قبائلهم فكانت تلوك لهجات تختلف عن اللهجة القرشية قليلا أو كثيرا، حسب قربها من مكة أو بعدها. فعمل القرآن على تقريب ما بين هذه اللهجات من فروق واستكمال السيادة للهجة القرشية، إذ كان العرب يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. وأخذت هذه اللهجة تعمّ بين القبائل الجنوبية متغلغلة فى الأنحاء الداخلية التى كانت لا تزال تتكلم الحميرية. ولما فتحت الفتوح ومصّرت الأمصار أخذت لهجته تسود فى مشارق العالم الإسلامى ومغاربه، إذ كانت تلاوته فرضا مكتوبا على كل مسلم، وحثّ الإسلام على حفظه وترتيله، يقول عزّ شأنه: {(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)} {(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).} وبذلك تحول المسلمون فى جمهورهم إلى حفظة للقرآن، يتلوه كبيرهم وصغيرهم حتى من سكنوا منهم الصحارى البعيدة ورءوس الجبال، مما جعلهم ينطبعون بطوابعه اللغوية.

ومن غير شك أتاح هذا الحفظ للهجة قريش لا أن تنتشر فى العالم الإسلامى فحسب، بل أن تحفظ أيضا وتظل على مرّ العصور جديدة عضّة لا تبلى مع الزمان، وأيضا فإنها اكتسحت ما لقيت من لغات، إذ اتخذتها شعوب -لا حصر لها-لسانها، فأصبح هو اللسان الأدبى من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلسى. فكل من عاشوا فى هذه الأنحاء تكلموا العربية القرشية، إذ حلّت من ألسنتهم محل لغاتهم الأولى وأصبحوا عربا يعبّرون بالعربية عن مشاعرهم وعقولهم، وكل ذلك بفضل القرآن الكريم، فهو الذى حفظ العربية من الضياع، ونشرها فى أقطار الأرض، وجعلها لغة حية خالدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>