وثانى آثاره أنه حوّل العربية إلى لغة ذات دين سماوى باهر، وبذلك أحلّ فيها معانى لم تكن تعرفها من قبله ولا كانت تعرف العبارة عنها، وعادة يقف مؤرخو الأدب عند ألفاظ ابتدأها ابتداء مثل: الفرقان والكفر والإيمان والإشراك والإسلام والنفاق والصوم والصلاة والزكاة والتيمم والركوع والسجود، وغير ذلك من كلمات الدين الحنيف، ولكن من الحق أن المسألة لم تكن مسألة ألفاظ فحسب، إنما كانت أيضا مسألة دين جديد، له مضمونه الذى لم يكن العرب يعرفونه، من الدعوة إلى عباد الله واشتقاق الدليل عليها وعلى وحدانيته.
من خلق السموات والأرض ومن تاريخ الأمم وما يعى من عظات ومن تاريخ الأنبياء وما يحمل من عبر، ومن تقرير البعث والنشور وبسط صور الثواب والعقاب مستعينا فى ذلك بالوجدانات الغريزية وبالعقول وتمييزها وما ينبغى أن يتهيأ لها من صواب الرأى. وإنه ليترقّى دائما من معرفة الحواس إلى معرفة الأذهان، وفى خلال ذلك يشرّع للناس ما ينبغى أن تكون عليه حياتهم من نظام فى أسرهم وفى مجتمعهم بحيث تسودهم الرحمة والعدالة كما تسودهم أخوة عامة، يبذل فيها الغنى للفقير من مال الله ما يعينه، أخوة لا أسود فيها ولا أبيض ولا عربى ولا أعجمى. وكل هذه الدعوة الكريمة التى نزل فيها مائة وأربع عشرة سورة تعدّ ابتداء، بعباراتها وبمعانيها. ونستطيع أن نقول إن كل ما كسبته العربية بعد ذلك من عظات. عند الحسن البصرى وغيره من كبار الواعظين، إنما هو من فيض القرآن ومعينه الغزير.
وبمرّ الزمن أخذت تتكون حوله علوم كثيرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن كل ما كسبه العرب من معارف إنما كان بفضل ما غرس فيهم القرآن من حب العلم كما قدمنا فى غير هذا الموضع. وقد أخذوا يشتقون منه مباشرة علوما كثيرة كعلم القراءات وغيره من العلوم التى عرض لها السيوطى فى كتابه «الإتقان فى علوم القرآن» وهو يقع فى مجلدين يصور فيهما ما انبثق حوله من علوم مختلفة كعلم التفسير وعلم أسباب النزول وعلم نحوه وإعرابه وعلم عامّه وخاصّه مما هيأ لظهور علوم البلاغة. ومن العلوم المهمة المتفرعة منه علم الفقه وأصوله. ولا نبالغ إذا قلنا إن العلوم الإسلامية كلها إنما قامت لخدمته، فهو الذى هيأ بقوة لنهضة العرب العلمية.