الفرات قائد الحملة الذى قضى نحبه فى حصاره لسرقوسة وهى تصور مذهب مالك من إملاءات أستاذه عبد الرحمن بن القاسم بمصر، حتى إذا شاعت مدوّنة سحنون-وهى أيضا من إملاءات ابن القاسم-فى القيروان والبلاد المغربية أخذ الشيوخ فى صقلية يلقنونها الناس والطلاب هناك.
ومع أن المسلمين فى صقلية ظلوا أشبه بمعسكر حربى لا يزالون ينتظرون النداء للحرب صباح مساء، ولا يزالون يشهرون سيوفهم مع أول صارخ، ومع أن الصرخات كانت لا تنى ترتفع، ومع أنهم ظلوا يفتحون الحصون طوال عهدهم بها ولا يكادون ينتهون من حرب حتى يبدءوا حربا جديدة، مع ذلك كله استقروا بالمدن التى فتحوها، وكوّنوا لأنفسهم فيها ولايات إسلامية، ونقلوا إليها الحضارة العربية وكل ما اتصل بها من عمران وبناء منازل وقصور فخمه، ونهضوا بالزراعة والصناعة والتجارة، كما نهضوا بالثقافة فى مختلف فروعها وعلومها وفنونها. ولم يكتف الشباب المسلم الصقلى بما كان يحصّله من ذلك على علماء سرقوسة وجرجنت ومازر وبلرم وغيرها من المدن فقد كانوا يرحلون إلى القيروان للتزود من حلقات علمائها، وكان كثيرون من علماء القيروان وشيوخها يعبرون البحر لتزويد الطلاب هناك بما أحرزوا من العلوم وصاغوا من المؤلفات. وكأنما كانت صقلية-طوال العهد الإسلامى-بلدا تونسيا، فكل ما فى القيروان من كتب ومصنفات وعلوم وآداب يرحل مع التونسيين المهاجرين إليها ومع أبنائها فى حقائبهم حين عودتهم إلى بلدانهم. وليست المسألة إذن أن كتابا نعثر على اسمه فى النصوص الصقلية مثل كتاب الملخص للقابسى الذى لخص فيه ما اتصل إسناده من أحاديث كتاب الموطأ لمالك، حتى إذا وجدناه هو أو غيره من الكتب سجلنا به وبها ما نقل إلى صقلية من المصنفات العلمية، والمسألة كانت أوسع من ذلك إذ لم يؤلف فى القيروان كتاب مهم إلا حمل إلى صقلية، وقد يحمله نفس مؤلفه على نحو ما هو معروف عن كتاب العمدة فى صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيروانى، فقد ارتحل إليها بعد الهجرة الهلالية إلى موطنه، وحمل إليها معه هذا الكتاب النفيس الذى يعدّ أروع ما وضعت المغرب والأندلس فى النقد الأدبى والبلاغة ومحسناتها من كتب، ولا ريب فى أنه كان له أثر بعيد فى نهضة صقلية الأدبية.
وعلى نحو ما تبادل العلماء والأدباء فى صقلية الرحلة مع علماء وأدباء القيروان كذلك تبادلوها مع علماء وأدباء المشرق والأندلس، بل كان بعض الشباب الأندلسى يقصد إلى صقلية للاستماع إلى هذا العالم أو ذاك ممن بلغت شهرتهم العلمية الأندلس، وكثيرا ما كان يقصد بعض علماء صقلية الأندلس فيجد شهرته سبقته إليها. وكانت رحلة الطلاب الصقليين إلى مصر والمشرق كثيرة، ونزلها غير عالم وأديب من المشرق من مثل أبى محمد إسماعيل بن محمد النيسابورى، وأخذ عنه-كما يقول ابن ظافر فى كتابه بدائع البداية-غير واحد كتاب