التزود وحث بدوره ابنه غليوم الثانى على استيعابها ما أمكنه، ويحدثنا الإدريسي فى فواتح كتابه «نزهة المشتاق» عن مدى ما أحرز روجار الثانى من هذه الفنون والعلوم قائلا: «أما معرفته بالعلوم الرياضيات والعمليات فلا تدرك بعدّ، ولا تحصر بحدّ، لكونه قد أخذ بكل فنّ منها بالحظ الأوفر، وضرب فيه بالقدح المعلّى» ويقول ابن جبير-كما مرّ بنا-عن غليوم الثانى:«له الأطباء المنجمون، وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم حتى إنه متى ذكر له طبيب أو منجم اجتاز ببلده أمر بإمساكه، وأدرّ له أرزاق معيشته، حتى يسلّيه عن وطنه.
وأحسّ روجار الأول-منذ أول الأمر-بالحاجة إلى ترجمة الكنوز العلمية النفيسة من العربية إلى اللاتينية، حتى يحوز النورمان لأنفسهم هذه الثروات العلمية، ولم يلبث أن أتاح له ذلك نصرانى يسمى قسطنطين الإفريقى ولد بمدينة قرطاجة التونسية سنة ٤٠٠ هـ/١٠٠٩ م وثقف العربية وأتقنها، واختلف فى القيروان إلى أصحاب علوم الأوائل فى الطب والرياضة والفلك، ورحل إلى القاهرة وفيها استكمل معرفته بالعلوم المذكورة، وعاد إلى بلده: قرطاجة وتركها إلى صقلية فى عهد روجار الأول وعرف منه حاجته إلى ترجمة كل ما كتبه العرب عن الطب، فرجع إلى القيروان، وجمع منها أنفس ما كتبه أطباؤها العظام، وعاد إلى روجار الأول يبشره بأنه اصطفى له أفضل وأنفس ما لأطباء القيروان والعرب عامة من كتب طبية وغير طبية، فأسّس له دير جبل كاسينو بالقرب من مدينة سالرنو فى جنوبى إيطاليا فتولى رياسته وأخذ يغرى رهبانه بتعلم العربية حتى إذا تعلموها أغراهم بترجمة مصنفاتها الرياضية والفلكية والطبية إلى اللاتينية، ودرس ما ترجموه فى كلية سالرنو ومنها نقل إلى الجامعات الأوربية، ومما يدل على ذلك أبلغ الدلالة فى المجال الطبى أن نجد فردريك الثانى ملك صقلية وإمبراطور ألمانيا يسنّ لائحة خاصة لمزاولة العمل الطبى فى مملكته يفرض فيها على كل طبيب يعمل بها أن يحصل على إجازة الطب من كلية سالرنو، وكان ذلك قبيل عصر النهضة الأوربية، فكان له تأثير بالغ فيها. ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب فى القسم الأول من كتابه: «ورقات عن الحضارة العربية فى إفريقية التونسية»: «جدير بالملاحظة أن جلّ ما ترجمه قسطنطين من الكتب العربية إلى اللاتينية أو حاول تقليده والوضع على غراره إنما كان مستمدا من مصنفات أطباء قيروانيين مثل إسحاق بن عمران وأحمد بن الجزار، كما أنه اعتمد فى الفلك وعلم الهيئة على كتاب البارع فى الفلك والنجوم لعلى بن أبى الرجال القيروانى». وكل ذلك كان يصب فى صقلية أخت القيروان، ويبدو أنها اشتهرت فى الفلك والهندسة بعلماء ومهندسين أفذاذ، يدل على ذلك-من بعض الوجوه-أننا نجد الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله (٣٨٦ هـ/٩٩٦ م -٤١١ هـ/١٠٢٠ م) حين ينشئ مرصده فى القاهرة يرسل إلى صقلية، فى طلب حذّاقها فى الهندسة والتنجيم، ويوافيه أبو محمد عبد الكريم المهندس الصقلى، ويتوقف العماد الأصبهانى فى القسم الخاص بصقلية ليقول عن هذا الشاعر أو ذاك إنه رياضى أو منجم فلكى أو مهندس