للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأمنعنّ جفونه طعم الكرى ... ولأمزجنّ دموعه بشرابه (١)

لم باح باسمى بعد ما كتم الهوى ... دهرا، وكان صيانتى أولى به

وهى تعلم مدى حبه لها وشغفه بها، وكان يكتم حبه ولا يصرّح باسمها، فلما صرّح به وأعلن حبه لها غضبت غضبا شديدا وصممت على الانتقام منه أشد الانتقام، إذ ستواصل عذابه بعذابه وستمنعه النوم وتمزج دموعه بأى شراب يشربه، حتى تأخذ بثأرها من بوحه باسمها بعد كتمانه دهرا، وكان أولى أن لا يصرح به أبدا. ويقول فى الأخرى (٢):

شكوت فقالت كل هذا تبرّما ... بحبّى أراح الله قلبك من حبّى

فلما كتمت الحبّ قالت: لشدّ ما ... صبرت وما هذا بفعل شجى القلب

فأدنو فتقصينى فأبعد طالبا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبى

فشكواى تؤذيها وصبرى يسوءها ... وتحرج من بعدى وتنفر من قربى (٣)

فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الأجر من ربّى

وهو لا يعرف كيف يرضى صاحبته، فإنه إذا شكا من حبها عدّت ذلك تبرما ودعت له أن يريحه الله من حبه، وإذا كتم شكواه وحبه قالت له: ما أشد صبرك وليس هذا من ديدن المحب العاشق. ويقول إنه يدنو فتقصيه، فيبعد آملا فى رضاها، فتعد بعده أو تباعده من ذنوبه عندها، وهو حائر فشكواه تؤذيها وصبره يسوؤها، ويؤلمها بعده وتنفر من قربه، ويسأل من حوله هل من حيلة له فى إرضائها ويدعو لمن دلّه على حيلة أن ينال جزاءه من ربه. وله بيتان بديعان يصور فيهما حال صقلية وقد نهكتها حروب النورمان (٤):

عشقت صقلّيّة يافعا ... وكانت كبعض جنان الخلود

فما قدّر الوصل حتى اكتهلت ... وصارت جهنّم ذات الوقود

فصقلية الجنة البديعة بقصورها وحقولها وزروعها وثمارها وأزهارها الزاهية أصبحت فى عهد النورمان بحروبهم وفتكهم برجالها وشبابها جهنّم المتقدة المشتعلة التى تلتهم كل سكانها، ولمحمد بن عيسى بن عبد المنعم من غزلية رائعة كان يغنّى بها هناك (٥):

مولاى يا نور قلبى ... ونور كلّ القلوب

أما ترى ما بجسمى ... من رقّة وشحوب


(١) الكرى: النوم.
(٢) الخريدة ١/ ٢٢.
(٣) تحرج: تضيق.
(٤) الخريدة ١/ ٢٢.
(٥) الخريدة ١/ ٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>