وكان يسمع أخبار مسقط رأسه سرقوسة ومقاومتها العنيفة للنورمان بقيادة بطلها ابن عباد فيهتز طربا ويكبر عنده الأمل فى ضرب النورمان الضربة القاضية، وبالمثل كانت تأتيه أخبار ابن حمودة فى قصريانة ومنازلته للنورمان منازلة ضارية، فيعظم عنده الأمل فى طرد النورمان من صقلية، ويرسل إلى قومه يحضهم على جهاد العدو الغاشم ويحثهم على منازلة العدو منازلة حاسمة، فلها عليهم جميعا حقوق، وواجب أن ينصروها ولا يخذلوها حتى الذّماء الأخير:
ولله أرض إن عدمتم هواءها ... فأهواؤكم فى الأرض منثورة النظم
وعزّكم يفضى إلى الذلّ والنّوى ... من البين ترمى الشمل منكم بما ترمى
أعن أرضكم يغنيكم أرض غيركم ... وكم خالة جدّاء لم تغن عن أمّ (١)
تقيّد من القطر العزيز بموطن ... ومت عند ربع من ربوعك أو رسم
وإياك يوما أن تجرّب غربة ... فلن يستجيز العقل تجربة السّمّ
وهو ينصح الباقين بعده فى سرقوسة وغير سرقوسة أن لا يفكروا فى مبارحتها حتى لا يعدموا هواءها الذى يتنفسونه ويحيون به ولا عزّهم الذى يعيشون فيه وإلا تحولت حياتهم إلى ذل وهوان، وهل تغنى أرض عن أرض الوطن، ويهيب بكل صقلى مسلم أن يقيد نفسه بموطنه، وأن يظل يدافع عنه حتى يموت عند ربع من ربوعه أو عند رسم من رسومه، ويحذره من الهجرة عنه والإفضاء إلى غربة، هى سم قاتل. ويعتذر لنفسه مرارا عن مبارحته الوطن فى وقت محنته وأنه لا يستطيع العودة إليه، لما يغدق عليه المعتمد بن عباد من أفضال متصلة. وفى رأينا أن العائق الأهم عن عودته لوطنه إنما كان المجد الأدبى الذى أخذ شعره يحققه له فى الأندلس، وبذلك تحققت أمنيته الكبرى من مبارحة الوطن. وكأنما قيّده هذا المجد بإشبيلية فلا يستطيع منها خلاصا وحراكا. وتسقط فى أيدى النورمان سرقوسة مسقط رأسه سنة ٤٨٢ وتسقط بعدها قصريانة سنة ٤٨٤ ويتلاشى من نفسه ونفس كل صقلى الأمل فى استرداد صقلية، وينظم قصيدة جنائزية يودعها بها قائلا:
أعاذل دعنى أطلق العبرة التى ... عدمت لها من أجمل الصبر حابسا
لقدّرت أرضى أن تعود لقومها ... فساءت ظنونى ثم أصبحت يائسا
وكيف وقد سيمت هوانا وصيّرت ... مساجدها أيدى النصارى كنائسا
إذا شاءت الرهبان بالضّرب أنطقت ... مع الصبح والإمساء فيها النّواقسا