للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرى بلدى قد سامه الروم ذلّة ... وكان بقومى عزّه متقاعسا (١)

وكانت بلاد الكفر تلبس خوفه ... فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا

وهو يقول لصاحبه دعنى أذرف الدموع التى لم يعد لها حابس من الصبر، إذ ظل سنين طويلة يظن أن صقلية ستعود إلى أهلها، فخاب ظنه، بل لقد أصبح يائسا يأسا مرا، فقد صهلت خيل النورمان فى كل أنحائها، وسيمت هوانا ما بعده هوان، وأى هوان أعظم على نفس المسلم من أن يرى بلده تسقط فى حجر النصارى ويحيلوا مساجدها كنائس، ويضرب الرهبان فيها النواقيس صباح مساء، لقد سام الروم صقلية الإسلامية ذلة ما تماثلها ذلة، صقلية التى كانت تعتز بمسلميها عزة لا تدانيها عزة. وكان النورمان فى جنوبى إيطاليا إذا سمعوا اسمها ارتعدت فرائصهم خوفا ورعبا، فإذا الأمر ينعكس ويصبحون هم مصدر الخوف لأهل صقلية الإسلامية.

ويفيض ابن حمديس فى الحديث عن بأس أهل صقلية المهيضة وجهادهم اليائس حين كانوا يسوقون أمامهم فرائس قلوريّة وبطارقتها وأشاوسها أسارى منكّسين ومعهم نساؤهم حواسر.

وليتأنّ الجيش النورمانى فى خطوه، فإنه يمشى فى بلاد تحت أرضها شجعانها الذين طالما أذلوا أهل قلورية، ولو شقت القبور عنهم لخرج إليهم منها أسد كاسرة غاضبة، غير أن الغيل غابت ليوثه فتبخترت فى أرجائه الذئاب.

ويحدث عقب ذلك أن يخلع يوسف بن تاشفين المعتمد بن عباد سنة ٤٨٥ من إمارته فى إشبيلية وينفيه إلى أغمات فى مراكش ونرى ابن حمديس يزوره بها ويحاول أن يخفف عنه ما دهاه، منشدا ردا على شعر كتب به إليه مستيئسا:

أتياس فى يوم يناقض أمسه ... وزهر الدّرارى فى البروج تدور (٢)

ولما رحلتم بالنّدى فى أكفّكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير

رفعت لسانى بالقيامة قد دنت ... فهذى الجبال الراسيات تسير

ورضوى جبل بالمدينة، وثبير: جبل بمكة، وهو يقول له ينبغى أن لا تيأس من أن يتغير الحال، فالكواكب الساطعة لا تثبت بل تدور فى بروج متعددة، ولما رحلتم بالجود الفياض فى أكفكم وكأنما تحرك جبلا المدينة ومكة المقدسان صحت إن القيامة قد دنت فها هى الجبال الراسيات تسير كما جاء فى الذكر الحكيم نعتا ليوم البعث.

ويتصل بأبى القاسم بن عشرة قاضى «سلا» على المحيط ويتجه إلى بجاية بالجزائر ويمدح المنصور بن الناصر بن علنّاس (٤٨٣ - ٤٩٨ هـ‍) ويولى وجهه نحو المهدية وتميم بن المعز بن


(١) متقاعسا: متخلفا.
(٢) الدرارى: الكواكب.

<<  <  ج: ص:  >  >>