للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

باديس ويلقاه لقاء حسنا، ويظل يتردد بين البلدتين ويضفى مدائحه على يحيى بن تميم بن المعز وابنه من بعده على وحفيده من بعدهما الحسن ويكتظ الديوان بمديحهم جميعا، ويمدح بنى خراسان فى تونس ويظل يتردد على بجاية يمدح بعض رجالاتها من بنى حماد. ومنذ أن هاجر من صقلية لم ينسها يوما وظلت لا تبرح ذاكرته حتى أنفاسه الأخيرة، ويخصّها بعد سقوطها بأشعار مؤثرة يبكيها ويبكى أيام مجدها، من ذلك قصيدة بائية فى مديح تميم بن المعز وفيها يقول:

تدرّعت صبرى جنّة للنوائب ... فإن لم تسالم يا زمان فحارب

وهو إنما يتدرع صبره ويحتمى به استسلاما، فإن الزمان أدار معه معركة حامية الوطيس فقد فيها كثيرا من أهله وحماة بلده، بل لقد فقد بلده نفسها غير مبق له على أى شئ، إلا أن يتنقل فى صحارى إفريقيا وسهوبها ولا أليف ولا أنيس:

ولا سكن إلا مناجاة فكرة ... كأنى بها مستحضر كلّ غائب

ولما رأيت الناس يرهب شرّهم ... تجنّبتهم واخترت وحدة راهب

وحتى خيال كنت أحظى بوصله ... له فى الكرى عن مضجعى صدّ عاتب

فهل حال من شكلى عليه-فلم يزر- ... قضافة جسمى وابيضاض ذوائبى (١)

فلم يعد له سكن يسكن إليه إلا أن يناجى فكره مستحضرا ما غاب عنه خاليا بنفسه ومعتزلا للناس، بل لكأن كل شئ من حوله يعتزله حتى الطيف الذى كان يسعده وصله فى نومه وأحلامه انقطع عن مضجعه صادّا عنه لا يزوره، فهل تغير شكله عليه وما حدث له من نحافة جسمه وابيضاض شعره، فلم يعد يعرفه ولم يعد يلقاه، ويذكر إخوان الصفاء وليالى الأنس بصقلية. وكان يتمنى لو استطاع الرجوع، غير أنها أصبحت مسترقة للأعداء:

ولو أن أرضى حرّة لأتيتها ... بعزم يعدّ السّير ضربة لازب

ولكنّ أرضى كيف لى بفكاكها ... من الأسر فى أيدى العلوج الغواصب

لئن ظفرت تلك الكلاب بأكلها ... فبعد سكون للعروق الضوارب (٢)

فعائقه إلى أرضه أنها استعبدت وأصبحت ملكا لغير أهلها، بل لقد أسرت ووضعت الأغلال فى أيديها وأرجلها، ولم تعد تستطيع خلاصا ولا فكاكا ولا تحررا، وقد ظفرت بها كلاب الأعداء تنهشها بعد جهاد أهلها لهم جهادا عنيفا، ويمر بفتنتهم قبل غزو النورمان مرورا خاطفا ويفيض


(١) قضافة: نحافة.
(٢) كنى ابن حمديس بسكون العروق الضوارب عن همود مقاومة أهل صقلية بعد الجهاد العنيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>