للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى الحديث عن بطولتهم فى حروب الروم وكيف كانوا يموتون موت البسلاء الشجعان:

يموتون موت العزّ فى حومة الوغى ... إذا مات أهل الجبن بين الكواعب (١)

حشوا من عجاجات الجهاد وسائدا ... أعدّت لهم فى الدّفن تحت المناكب (٢)

فغاروا أفول الشهب فى حفر البلى ... وأبقوا على الدنيا سواد الغياهب (٣)

لقد أبلوا بلاء عظيما فى حرب الروم قديما بقلوريّة وحديثا بصقلية، وما منهم إلا من يقدم نفسه فداء لوطنه، وما منهم إلا من واقع الروم مرارا وتكرارا حتى اجتمعت له وسادة من غبار وقائعه أعدّت له ليتوسدها فى قبره، وما زالت بهم البطولة المتناهية حتى أفلوا-أفول النجوم- فى حفر البلى مخلّفين وراءهم على آفاق الدنيا سواد حزن وثكل لا يشبهه سواد. ويلتفت إلى داره الغريقة بنوطس وسرقوسة، ويستودعها الله ويستمطر لها السحاب الممطر، ويهتف:

ألا فى ضمان الله دار بنوطس ... ودرّت عليها معصرات الهواضب (٤)

أمثّلها فى خاطرى كلّ ساعة ... وأمرى لها قطر الدموع السواكب (٥)

أحنّ حنين النّيب للموطن الذى ... مغانى غوانيه إلىّ جواذبى (٦)

وهى تمثل له ليل نهار وصباح مساء فى خواطره، بل إنها لتمثل له كل ساعة وكل لحظة، ويذرف لها الدموع السواكب مدرارا، ويحن-حنين الإبل-للموطن الذى نبتت فيه، وإن مغانيه ومنازله لتجذبه إليها جذبا، وكأنما أودعها فؤاده ويريد أن يستردّه، حتى لا يحيا جسمه بدونه ودون خفقاته. وله فى صقلية قصيدة ثانية هائية يستهلها بقوله:

قضت فى الصّبا النفس أوطارها ... وأبلغها الشيب إنذارها (٧)

وهى أشبه بشريط لذكريات صباه وشبابه فى سرقوسة، ويذكر مجالس لهوه بها ويتذكر ليلة ساهرة والندامى من حوله وساقية تزرّر بكفّها أزرارها:

تدير بياقوتة درّة ... فتغمس فى مائها نارها

ويشربها رفاقه، ويمعنون فى الشرب، ويذهبون إلى دير، يحتسون الخمر، ويطيل فى وصف


(١) حومة الوغى: أشد موضع فى الحرب.
(٢) عجاجات جمع عجاج: غبار.
(٣) الغياهب جمع غيهب: الظلام الشديد.
(٤) المعصرات: السحب الممطرة والهواب: السحب يدوم مطرها أياما ولا يقلع.
(٥) أمرى: أسكب وأذرف.
(٦) النيب: النوق. مغانى: منازل.
(٧) أوطارها جمع وطر: البغية والحاجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>