ألم تر أنّا فى نوى مستمرّة ... نروح ونغدو كالمصرّ على الذّنب
وديوان ابن حمديس ديوان ضخم وقد حققه تحقيقا دقيقا الدكتور إحسان عباس وهو يموج بقصائد المديح كما يموج بقصائد الغزل ووصف الطبيعة والخمر ومجالسها، وكأنما يريد أن يغرق فيها لوعاته على ضياع صقلية وظلت تشتعل فى دخائله إلى آخر أنفاسه، وللصيد أراجيز بديعة فى الديوان وبالمثل للرثاء وخاصة لمن فقدهم من أسرته وذوى رحمه، ونلمح من حين إلى آخر مقطوعات فى الزهد لعله نظمها بأخرة من حياته، وغرض وحيد من أغراض الشعر العربى لم ينظم فيه بيتا هو الهجاء، إذ كان يترفع عن الشتم والبذاءة، يقول:
إنّي امرؤ-وطباع الحق تعضدنى- ... مطهّر العرض لا أدنو من الدّنس
فما أحرّك فى فكّىّ عن غضب ... لسان منتهش الأعراض منتهس
فهو طاهر النفس يسمو عن كل دنس فضلا عن دنس الهجاء، وهو حليم لا يغضب غضبا يخرجه عن طوره، فينتهك أعراض الناس ويمضغ لحومهم موجدة وغلاّ، وليس ذلك عن ضعف فى شاعريته، بل هو العفو والصفح عن مقدرة، يقول:
إنّي امرؤ لا ترى لسانى ... منظمّا ما حييت هجوا
كم شاتم لى عفوت عنه ... مصمّما فى اللسان نهوا
لو شئت صيّرت بالقوافى ... غارة هجوى عليه شعوا
ومزّق القول منه عرضا ... لا يجد المدح فيه رفوا
فقد عاهد نفسه أن لا ينظم هجاء طوال حياته، وأن يعفو عمن يشتمه، ولو أراد لتتابعت على خصمه حملات شعواء من هجائه ولمزّق عرضه وهتكه هتكا لا يمكن أن يرفوه مديح أو يرتق فتوقه صنيع. وفى ذلك دلالة واضحة على نبل خلقه وسمو نفسه.
وكان خياله خصبا إلى أبعد حد مما جعله ينفذ إلى كثير من الصور المبتكرة الفريدة، وهى تلقانا فى جميع أغراض شعره مفاجئة لنا، مما يحدث تأثيرا بعيدا فى نفس قارئه كقوله فى الغزل:
زادت على كحل الجفون تكحّلا ... فيسمّ نصل السّهم وهو قتول
والشعراء قبله كانوا يتحدثون عن سهام العيون وأنها قاتلة، وزاد ابن حمديس أن سهام عيون صاحبته أشد قتلا وفتكا بما أضافت إليها من تكحل جعلها سهاما مسمومة، ما إن تصيب شخصا حتى تفقده حياته، ويقول فى نهر لعله نهر إشبيلية مصورا خرير مياهه:
جريح بأطراف الحصا كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره