للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودون مرام الرّوم فيما سموا له ... قلائد أعناق هى القضب البتر (١)

وكم من فريق منهم إذ تمزّقوا ... له غرق فى زخرة الموج أو أسر

فسل عنهم الديماس تسمع حديثهم ... فهم بالمواضى فى جزيرته جزر (٢)

هناك شفى الإسلام منهم غليله ... بطعن له بتر وضرب له هبر (٣)

أعارب جدّوا فى جهاد أعاجم ... خنازير شبّت حربها أسد هصر (٤)

وهو يهنئه بهذا الانتصار المروّع الذى جعل السيوف تلغ فى دمائهم وتشرب منها مرتوية، وكأنما ابن حمديس نفسه هو الذى يشرب منها محاولا أن يشفى غليله من النورمان وقد استبشر وجه الدين بشرا لا يماثله بشر. ويقول إن فيما تطلعوا إليه من استيلائهم على الساحل التونسى قلائد من الرماح استأصلت أعناقهم وتمزقوا كل ممزق، ووقع منهم فريق فى قبضة الأسر وفريق غرق فى زخرة الموج، وسل عنهم حصن الديماس الكبير يجبك أن عيدا كبيرا نصب لنحرهم وذبحهم فى جزيرته بالسيوف المواضى، وهناك شفى الإسلام غليله وغيظه بطعن وضرب يقطّعان أجسادهم تقطيعا، ويحيّى الجيش الباسل إنه جيش أعارب صدقوا فى حملتهم العنيفة على الروم الخنازير، وإنها لحملة أسد افترستهم، أسد أعز الله بها الدين الحنيف. والقصيدة من أروع القصائد فى جهاد أعداء الإسلام وتدمير جيوشهم تدميرا لا يكاد يبقى منهم باقية.

ولم يلبث أن عاد إلى حزنه على وطنه الضائع، وعاد إلى شعوره بغربته، وهو شعور لازمه طول حياته، وطالما ردده فى قصائده وجاءه وهو فى سن الثمانين نعى ابنته، ولم تكن تظن أنه على قيد الحياة فبكاها بقوله:

أرانى غريبا قد بكيت غريبة ... كلانا مشوق للمواطن والأهل

بكتنى وظنّت أننى متّ قبلها ... فعشت وماتت-وهى محزونة-قبلى

واجتمع عليه حزنه فى فلذة كبده بحزنه فى وطنه أو فردوسه المفقود، ودار به العام فلبى نداء ربه سنة ٥٢٧ هـ‍/١١٣٣ م فى بجاية، وما تعرف العربية شاعرا عاش يتفجع على وطنه ويحنّ إليه كما تعرف فى ابن حمديس، إذ كان يشعر شعورا عميقا بأنه كان كل شئ فى دنياه، بل كان فردوسه الذى أخرج منه كما أخرج أبوه آدم قديما من الفردوس، ويشعر كأنما أتى ذنبا كبيرا كذنب أبيه آدم، بل لكأنما غربته المستمرة وتطوافه فى الآفاق إصرار منه على ارتكاب هذا الذنب:


(١) القضب البتر: السيوف القاطعة.
(٢) المواضى: السيوف. جزر جمع جزور: الذبيح.
(٣) هبر: قطع، واستئصال.
(٤) هصر جمع هصور: مفترس.

<<  <  ج: ص:  >  >>