ودائما تلقانا مثل هذه الحكم فى الكتاب، وننتقل معه إلى سلوانة التأسى، وقد أدارها على قصة طويلة لسابور الملك ووزيره وحيله واستطرد فى أثنائها لقصتى فتى وفتاة وفرس وخنزير وينثر فى تضاعيفها كثيرا من الحكم السياسية والاجتماعية مثل قوله: من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى العزة، ومن غرس الإحسان اجتنى المحبة، ومن غرس الحلم اجتنى الحكمة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت، ومن غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزى، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد. ويقول: تتميز الملوك على السوقة بفضيلة الذات لا بفضيلة الآلات، وفضيلة ذات الملك تتميز بخمس خصال: رحمة تشمل الرعية، وتغطية تحوطهم، وصولة تذبّ عنهم، وفطنة يكيد بها الأعداء، وحزم ينتهز به الفرص. ويقول فى سلوانة الصبر التالية:
صبر الملوك ثلاثة قوى: قوة الحلم وثمرتها العفو، وقوة الكلاءة (الرعاية) والحفظ وثمرتها عمارة المملكة، وقوة الشجاعة وثمرتها فى الملوك الثبات وفى حماة المملكة الإقدام فى المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام فى المكافحة، فإن ذلك من الملك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعته ثباته حتى يكون قطبا للمحاربين ومعقلا للمنهزمين، وهذا ما دام بحضرته من يثق بذبّه عنه، ودفاعه دونه، وحمايته له. ومما قاله فى هذه السلوانة: صلاح الملك: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد بالعدل، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم.
وتلى ذلك سلوانة الرضا، ومن حكمه فيها الرياء سراب يخدع الفطن القاصرة، ولا يخفى عن البصائر الباصرة-أمران يسلبان الحر كمال الحرية: قبول البرّ، وإفشاء السر-كثرة النوم تجلب الدمار وتسلب الأعمار-من لزم الرقاد عدم المراد-كن من عينك على حذر، فرب جنوح حين (هلاك) جناه جموح عين-السآمة من أخلاق العامة-ما أحرى الملول بأن يحرم المأمول. ومن قوله فى سلوانة الزهدا الأخيرة:
يا متعبا كدّه الحر ... ص فى الفضول وكاده
لو حزت ما حاز كسرى ... وما حوى وأفاده
ما كنت إلا معنىّ ... ومغرما بالزّياده
لم يصف فى الأرض عيش ... إلا لأهل الزهاده
ودائما يضع مثل هذه الأبيات فى صدر كل سلوانة، مما يصور شاعرية خصبة لديه بجانب ما يسوق من حكم مسجوعة فى عبارات محكمة، وأيضا ما يسوق من أمثال وقصص فى أساليب متناسقة، تصور حسا دقيقا وذوقا مصفى وقدرة على الحوار الأدبى البارع.