ولم أتحدث-حتى الآن-عن هجرات الأندلسيين إلى الجزائر منذ هزيمة دولة الموحدين فى واقعة العقاب بالأندلس سنة ٦٠٩ هـ/١٢١٢ م فقد بدا لكثيرين منهم أن المستقبل ينذر برجحان كفة الإسبان وقرب استيلائهم على البلدان الأندلسية، وأخذ نفر منهم غير قليل يهاجر إلى البلاد المغربية باحثا له عن وطن جديد يلتجئ إليه، وأخذت مدنهم تتساقط فى حجر الإسبان منذ العقد الرابع من القرن السابع الهجرى، وسقطت جوهرتهم الكبرى قرطبة، وتبعتها فى السقوط دانية وشاطبة وإشبيلية عروس الأندلس وبلنسية ثم مرسية. وكانت كل مدينة أندلسية تسقط ينزح منها إلى مدن الجزائر وغيرها من المدن المغربية أندلسيون كثيرون، وكان الأثرياء منهم والعلماء ينزلون مدن الساحل الشمالى فى الجزائر وينزل معهم بعض أصحاب الحرف والصناعات. أما أهل القرى الأندلسية فكانوا ينزلون فى السهول والوديان-وربما نزلوا فى سفوح الجبال كما كانوا ينزلون فى الأندلس-وكانوا يعنون بالزراعة وغرس الأشجار وإنشاء الحدائق والبساتين. وأخذت تكتظ بهم المدن الشمالية مثل وهران ومستغانم وبونة (عنابة) وبجاية، ومن يرجع إلى كتاب عنوان الدراية فى علماء بجاية بالقرن السابع الهجرى سيجد من بينهم أكثر من عشرين عالما وأديبا نزحوا من الأندلس إلى بجاية حينذاك وملئوها علما وأدبا، وكانوا من العوامل الفعالة فى نهضتها العلمية والأدبية. وتهبط إلى الجزائر من الأندلس موجة ثانية كبيرة بعد سقوط غرناطة سنة ٨٩٧ هـ/١٤٩٢ م ويستوطنون المدن الساحلية المذكورة آنفا وأخواتها على الساحل الشمالى مثل شرشال ويقول الحسن الوزان «إن كثيرا من الغرناطيين قصدوها وأعادوا بناء قسم كبير من منازلها وكذلك قلعتها وزرعوا أراضيها، وزاولوا فيها أعمال صناعة الحرير لأنهم وجدوا بها كمية لا تحصى من أشجار التوت الأبيض والأسود وتحسنت أحوالهم يوما بعد يوم حتى أصبحوا يسكنون ألفا ومائتين من البيوت وتوطّنوها مثل إخوانهم فى المدن الجزائرية الأخرى، وبنوا كثيرا من سفن الملاحة لمطاردة السفن الإسبانية فى البحر المتوسط والاستيلاء على ما فيها من غنائم انتقاما من فرديناند واستيلائه على غرناطة. ويدور الزمن دورة حتى سنتى ١٠١٦ - ١٠١٧ هـ/١٦٠٨ - ١٦٠٩ م فينفى ملك إسبانيا كل من بقى فى إسبانيا من المسلمين، وتتجه أفواج كبيرة منهم إلى المدن الجزائرية، ويتخذوها وطنا ثانيا لهم، وقد نقلوا معهم كل حضارتهم ومدنيتهم مما كان له تأثير واسع فى الجزائر أثناء العهد العثمانى. وقد بعثوا فيها حركة تعليمية واسعة منذ جاءت أعدادهم الكبيرة بعد سقوط غرناطة، وكانوا يؤسسون جمعيات خيرية للإنفاق على فقرائهم ولإنشاء المدارس كمدرسة مازونة ومدرسة الأندلسيين فى مدينة الجزائر، ولا بد أن كانت لهم مدارس فى المدن الأخرى، وكانوا يحبسون عليها أموالا أو عقارات للإنفاق منها على الأساتذة والطلاب. وتنبه العثمانيون لقدرة الأندلسيين التعليمية، فكانوا يعينون منهم كبار المعلمين فى المدارس ويفرضون لهم رواتب مجزية.