«قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن فى وقت ما لا يحسن فى آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحدّ الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت فى بلد ألفاظ لا تستعمل كثيرا فى غيره كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس فى أشعارهم ونوادر حكاياتهم. قال: والذى أختاره أنا التجويد والتحسين الذى يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشىّ المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر والتشبيه المصيب والاستعارة الحسنة».
فعيد الكريم يرى أن الجودة فى الشعر تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وأن المدار فيها ليس على القدم والحداثة ولا على بلد شرقا دون بلد غربا إنما المدار فيها على حسن النسق وجمال الصياغة بحيث لا يكون الكلام حوشيا جافيا ولا مولّدا سفسافا غثّا بل يكون رصينا جزلا أو رقيقا سلسا مع ما يحمل من تلاوين التشبيهات والاستعارات البارعة. ونمضى مع ابن رشيق فى الجزء الأول من كتابه العمدة فنجده يعقد بابا فى الشعراء والشعر يذكر فيه عن عبد الكريم قوله:«الشعر أصناف، فشعر هو خير كله، وذلك ما كان فى باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العائد على من تمثّل به بالخير وما أشبه ذلك، وشعر هو ظرف كله، وذلك القول فى الأوصاف والنعوت والتشبيه وما يفتنّ به من المعانى والآداب، وشعر هو شر كله، وذلك الهجاء وما تسرّع به الشاعر إلى أعراض الناس، وشعر يتكسّب به، وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها ويخاطب كل إنسان من حيث هو ويأتى إليه من جهة فهمه».
وهى أنواع تستقصى أغراض الشعر، فمنه الخيّر الذى يهدى إلى السّنن القويم من الزهد والسلوك المستقيم إيثارا لما عند الله من الثواب على متاع الحياة الفانى، ومنه ما تستريح إليه النفس من وصف الطبيعة ومن الحكم والمعانى الطريفة، ومنه ما هو شر خالص وهو الهجاء المقذع الذى ينتهك الأعراض، ومنه ما يتكسب به، وهو شعر المديح الذى يعود على صاحبه بالنفع فى كل سوق. ويعقد ابن رشيق عقب هذا الباب بابا لحد الشعر وبنيته، ويذكر فيه لعبد الكريم قوله:
«يجمع أصناف الشعر أربعة: المديح والهجاء والحكمة واللهو، ثم يتفرّع من كل صنف من ذلك فنون فيكون من المديح المراثى والافتخار والشكر، ويكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ويكون من الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرد والخمر والمخمور». وفنون الشعر الأربعة التى ذكرها عبد الكريم نقلها عن ابن وهب فى كتابه نقد النثر، وقد عرف كيف يرد إليها كل أغراض الشعر، فالمديح منه الرثاء إذ هو مديح لميت، ومنه الفخر إذ هو مديح للشاعر الذى نظمه، مديح لنفسه، وكذلك الشكر مديح لمن يقدم إليه وعرفان بفضله، ومن السهل إدخال الذم فى الهجاء أما العقاب والاستبطاء فيدخلان فيه بشئ من التوسع إذ قد ينقلبان هجاء. وبحق تدخل الأمثال فى الحكمة كما يدخل فيها