للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجارح بصيده وقد ملأ مخالبه. وينشد ابن خلدون لبعض بنى دريد الهلاليين من عشيرة الجازية مفاخرا بساداتها مع حنينه إلى القيروان حين نزلوا بها فى أول قدومهم إلى الإقليم رامزا لها بصبرة التى بناها فى جنوبيها المنصور العبيدى:

دريد سراة البدو للجود منقع ... كما كلّ أرض منقع الما خيارها

وهم غرّبوا الأعراب حتى تعرّفت ... بطرق المعالى ما يوفّى قصارها

وطرّوا طريق البارمين ثنيّه ... وقد كان ما تقوى المطايا حجارها

والشاعر يقول دريد الراحلة أشراف البدو ومنقع الجود ينهل منه كل ظامئ، وهم أصحاب الفضل فى قيادة الهلاليين إلى ديار المغرب حتى تعرفوا طرق المعالى المفرطة الطول الشاقة وقد طروا أى مهّدوا طريق البارمين إلى الجزائر وأنحاء بونة وما بها من ثنيات وممرات فى الجبال وكانت المطايا والإبل لا تستطيع السير فيه لكثرة ما به من الحجارة والصخور، فأصبح ممهدا ذلولا. والأبيات فصيحة وتجرى على سنن العربية فى الإعراب، ولا ندرى هل أشعار القصص فى الهلالية بدأت معربة ثم فقدت الإعراب مع الزمن أو أنها وضعت غير معربة، ومن المؤكد أنها لم توضع عقب الرحلة والاستقرار فى المغرب مباشرة، بل وضعت بعد ذلك حين أخذت تسود العامية فى الأفواه بالقرن السادس وما بعده، وبها كثير من الأشعار البليغة بما تحوى من العبارات الرصينة والمشاعر الرقيقة والصور البديعة. ومن هذا الميراث عن الأعراب ما دخل على اللغة البربرية من ألفاظ عربية سليمة اقترضوها من الفصحى وتبلغ فى بعض الأنحاء نحو ثلث اللغة البربرية المتداولة.

ويعقد ابن خلدون فى مقدمته فصلا فى أشعار العرب المستعجمة أو المستحدثة بالعامية لعهده فى القرن الثامن الهجرى فيقول: «فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد فى سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطردون فى الخروج من فن إلى فن فى الكلام، وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم، وأكثر ابتدائهم فى قصائدهم باسم الشاعر؛ ثم بعد ذلك ينسبون، وأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد باسم الأصمعيات نسبة إلى الأصمعى راوية العرب لأشعارهم. ولهم فن آخر فى كلامهم كثير التداول فى نظمهم يجيئون به معصّبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة قبله فى رويه ويلتزمون القافية الرابعة فى كل بيت (دور) إلى آخر القصيدة شبيها بالمربعات والمخمسات التى أحدثها المتأخرون من المولدين. ولهؤلاء العرب (البدو) فى هذا الشعر بلاغة فائقة، وفيهم الفحول والمتأخرون

<<  <  ج: ص:  >  >>