للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(المتخلّفون). والكثيرون من المنتحلين للعلوم لهذا العهد-وخصوصا علم اللسان- يستنكرون هذه الفنون التى لهم إذا سمعوها، ويمجّون نظمهم إذا أنشد، ونعتقد أن ذوقهم إنما نبا عنها واستهجنها لفقدان الإعراب منها. . وأساليب الشعر وفنونه موجودة فى أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب فى أواخر الكلم، فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر (ساكنة) ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب». وينشد ابن خلدون طائفة من أشعار الملحمة الهلالية على لسان الشريف ابن هاشم يبكى الجازية أخت الحسن بن سرحان، ويذكر ارتحالها مع قومها إلى المغرب وعتابا منه لزوجها ماضى بن مقرب ورثاء بعض شعرائهم للزناتى خليفة، ويسوق أشعارا أخرى لشعرائهم. ومن الصعب التمثل بأبيات منها لأنها غير مضبوطة بالشكل، ولأن كثيرا من الكلم فيها أصابه غير قليل من التحريف، بحيث يصعب فهمها ونطقها نطقا سليما. وكلما تقدمنا فى الزمن بعد عصر ابن خلدون فى القرن التاسع الهجرى يتكاثر هذا الشعر العامى أو الشعبى. ويزداد طغيانه على الشعر الفصيح فى العهد العثمانى، وكان ينظم فى المولد النبوى وفى الجهاد الحربى للأجانب وفى الأزمات الاقتصادية والأحوال المعيشية. ولسعيد المنداسى مدحة نبوية عامية سماها «العقيقة» عنى بها غير شارح، وممن شرحها ابن سحنون. واشتهر بتلمسان فى القرن الثانى عشر الهجرى ثلاثة شعراء شعبيون هم: محمد بن مسائب وابن التريكى والزناقى، ولهم أشعار دينية مختلفة، سوى ما لكل منهم-كما فى كتاب تاريخ الجزائر الثقافى-من رحلة حجازية منظومة.

ومن الحق أن الشعر العامى الشعبى فى الجزائر سواء نظم على لسان البدو من الأعراب أو على لسان أهل الحضر والمدن لم ترجح يوما كفّته على كفّة الشعر الفصيح، والجزائر فى ذلك مثل بقية البلاد المغربية والعربية عامة إنما كانت تعنى الطبقات المثقفة فيها عناية أكبر وأوسع بالشعر الفصيح. ومن الحق أيضا أن الهجرة الأعرابية الكبرى إلى الجزائر استطاعت-منذ القرن الخامس الهجرى-أن تفرض لغتها العربية على سكان البوادى وسفوح الجبال والسهول والحواضر بفضل امتزاج هؤلاء الأعراب بالبربر فى المعاش وعن طريق المصاهرة ودفعهم إلى التخاطب بالعربية مما جعل اللغة البربرية تتقهقر وتتراجع أمامها إلى الجبال والمعاقل النائية المنيعة، ومع ذلك لحقتها العربية هناك واستولت على ألسنة كثيرين من أهلها، بل لقد استولت على اللغة البربرية هناك فأشاعت فيها كثيرا من ألفاظها، مما جعل سكان الجزائر-منذ أواسط القرن الخامس الهجرى أو بعد ذلك بقليل-يعدون شعبا عربيا تاما فى دينه الحنيف ولغته وثقافته وآدابه وأشعاره، مع ما اقتبسوه من معيشة هؤلاء الأعراب ومن تقاليدهم وعاداتهم فى حياتهم الاجتماعية، وكل ذلك استقر وثبت ثبوت الراسيات.

<<  <  ج: ص:  >  >>