للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموضع أن عبد الرحمن بن رستم أقام بها الدولة الرستمية، وكان يعتنق مذهب الخوارج الإباضية، وأتته جموع الخوارج من كل مكان فى المغرب. وكان أئمة هذه الدولة-على شاكلته- يفسحون لأهل السنة والمعتزلة فى مدينتهم، وفيها ولد بكر بن حماد سنة مائتين للهجرة، وكان من قبيلة زناتة البربرية الضخمة، ولا نعرف شيئا عن أسرته. ويبدو أن أباه لم يكن إباضيا، وكانت بتاهرت حركة علمية خصبة بثّتها فيها الدولة الرستمية، ووجهه أبوه إلى العلم، فحفظ القرآن، وأخذ يختلف إلى حلقات العلماء وشغف بالشعر وتفتحت ملكته مبكرة، كما شغف بحلقات المحدثين، ونراه يرحل فى سن السابعة عشرة إلى القيروان فالبلاد المشرقية، يأخذ الحديث واللغة، وأوغل فى رحلته حتى البصرة وفيها تتلمذ على مسدّد بن مسرهد وأخذ عنه مسنده فى الحديث النبوى، وسيعنى فيما بعد بإذاعته فى الديار المغربية. وتتلمذ على شيوخ البصرة فى اللغة حينذاك من أمثال ابن الأعرابى، ودفعه طموحه إلى أن يذهب إلى بغداد، وفيها لفت أبا تمام وغيره من شعرائها الكبار بمهارته فى الشعر، ففسحوا له فى مجالسهم، وتعرّف على دعبل هجّاء الخلفاء: المعتصم العباسى وغيره، ويبدو أن الفتى الجزائرى مدح المعتصم وأجزل له فى العطاء مما جعله يخاصم دعبلا، وربما خاصمه غضبا لخليفة المسلمين، ونراه يحرّضه على عقابه والقصاص منه قائلا:

أيهجو أمير المؤمنين ورهطه ... ويمشى على الأرض العريضة دعبل

أما والذى أرسى ثبيرا مكانه ... لقد كادت الدنيا لذاك تزلزل

ولكن أمير المؤمنين بفضله ... يهمّ فيعفو أو يقول فيفعل

وكأنه فى الكلمة الأخيرة من أبياته يحرّض المعتصم على الفتك بدعبل، ويقال إن أبا تمام حين سمع منه هذه الأبيات قال له: لقد قتلته يا بكر، وكأنما أعجبته كلمة أبى تمام- حبيب بن أوس-فألحق بالأبيات بيتين إشارة إلى كلمة أبى تمام قائلا:

وعاتبنى فيه حبيب وقال لى ... لسانك محذور وسمّك يقتل

وإنّي-وإن صرّفت فى الشعر منطقى- ... لأنصف فيما قلت فيه وأعدل

ولم يطل ببكر المقام فى بغداد، فقد عاد إلى الديار المغربية سريعا واستقر فى القيروان عاصمة المغرب الأدنى (الإقليم التونسى) واختلف إلى حلقات شيخين كبيرين فيها هما سحنون صاحب المدونة فى فقه مالك الذى كانت شهرته تدوى فى المغرب، والثانى محدث كبير هو عون بن يوسف الخزاعى وكان قد تتلمذ لعبد الله بن وهب المحدث المصرى صاحب كتاب الجامع فى الحديث، وعنه أخذه بكر بن حماد، كما أخذ فى البصرة مسند مسدّد بن مسرهد. ويبدو أنه أخذ يعنى بعد وفاة شيخيه الكبيرين: عون وسحنون برواية مسند مسدّد وجامع ابن وهب وإملائهما على الطلاب فى القيروان، وقد نال فى دراسته للحديث النبوى شيئا من

<<  <  ج: ص:  >  >>