وهو يقول إن أقلام القضاء أحاطت بالخلق فمنهم شقى خاسر وسعيد فائز، وإن الخير فى الدنيا آخذ فى القلة والنقص، والحديث فى ذلك يطول. ويتعرض ليحيى بن معين مؤسس نقد رجال الحديث مما هيأ بقوة لنشوء علم الرجال أو علم الجرح والتعديل، وهو علم محّص رواية الحديث النبوى الشريف، ونفى عنها الزيف والكذب والتدليس، وهل من يوثّق راويا للحديث يكون مغتابا له أو يكون قد أولاه شرفا رفيعا؟ ومعاذ الله أن يكون يحيى بن معين قد زوّر على راو صدوق للحديث تجريحا أو اتهاما بسوء، ومعاذ الله ثانية أن يذكر بكر الشياطين وأن يلقب يحيى بأنه شيطان مريد أو خبيث للمحدّثين، نضّر الله وجه يحيى بن معين وجزاه الجزاء الأوفى عن الحديث النبوى والمحدثين. وكان عمران بن حطّان الخارجى قد أشاد بشقى الخوارج عبد الرحمن بن ملجم المرادى قاتل على بن أبى طالب، وفى طعنته له يقول (١):
يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنّي لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البريّة عند الله ميزانا
وسمع-أو قرأ-البيتين بكر بن حماد السّنّىّ فاستشاط غضبا وحمية للإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، وعارض البيتين بقصيدة هجا فيها ابن ملجم هجاء مريرا مع بيان ما للإمام على من فضل عظيم فى الإسلام ليبين مدى جناية ابن ملجم وما ارتكب من إثم شنيع، وفيها يقول:
قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت- ويلك-للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشى على قدم ... وأوّل الناس إيمانا وإسلاما
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبىّ ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه-على رغم الحسود له- ... مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر ... فقلت سبحان ربّ الناس سبحانا
أشقى مراد إذا عدّت عشائرها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا
يا ضربة من شقىّ أورثته لظى ... مخلّدا وأتى الرحمن غضبانا
وبكر يصوّر فضائل الإمام على ليجسد جريمة ابن ملجم وفداحة ما اقترفه إذ هدم ركنا ضخما من أركان الإسلام، وكان على أول الناس إيمانا وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكان صهره وسيفه المسلول على أعدائه وأعداء الدين فى جميع غزواته. ويشير إلى الحديث النبوى: «على منى بمنزلة هارون من موسى». وإنه ليذرف عليه الدمع مدرارا، ويقول إن ابن ملجم أشقى قبيلته مراد وأخسر البرية ميزانا عند ربه، ويا لها ضربة أو طعنة ستصليه نار جهنم خالدا فيها مع غضب الله عليه غضبا شديدا. وواضح أنها أهجية مريرة لسنّى ضد قاتل
(١) انظر كتابنا: العصر الإسلامى فى ترجمة ابن حطان ص ٣٠٧.