للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبينما المرء لاه عنه فى لهو وفى لعب إذا هو محمول على نعش وأعواد وآلة حدباء تقذف به فى مهاوى القبور. ويبكى ابنه طويلا بمثل قوله (١):

بكيت على الأحبّة إذ تولّوا ... ولو أنّى هلكت بكوا عليّا

فيا ولدى بقاؤك كان ذخرا ... وفقدك قد كوى الأكباد كيّا

كفى حزنا بأنى منك خلو ... وأنك ميّت وبقيت حيّا

ولم أك يائسا فيئست لما ... رميت التّرب فوقك من يديّا

وهو يبكى أحبته وفلذة كبده بكاء حارا، وقد كان بقاء ابنه ذخرا لا يماثله ذخر له وقد كوى فقده كبده كيّا مؤلما أشد الألم، ويقول إنه يكفيه حزنا أن مات ابنه وأنه عاش بعده يتلظى موجدة وحزنا، ولم يك يعرف اليأس إلا حين فقده، ورمت يداه عليه التراب فأظلمت الدنيا فى عينيه. ولابن الرّبيب يرثى خمسة من القواد فى عهد باديس (٣٨٦ - ٤٠٦ هـ‍) غامروا بأنفسهم فى معركة خاسرة بالزّاب، وفيهم يقول مصورا بأسهم (٢):

أبت لهم أن يرتضوا الضّيم أنفس ... كرام رأت رميا بها الموت أحزما

فهبّوا وما هابوا الرّدى فتدرّعوا ... على خطر قطعا من الليل مظلما (٣)

وهوّن وجدى أنهم خمسة مضوا ... وقد أقعصوا خمسين قرما مسوّما (٤)

وكان عظيما لو نجوا غير أنهم ... رأوا حسن ما أبقوا من الذكر أعظما

أبوا أن يفرّوا والقنا فى نحورهم ... وأن يرتقوا من خشية الموت سلّما

ولو أنهم فرّوا لفرّوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما

وهو يقول إن أنفس هؤلاء القواد الخمسة كانت من الشعور بالعزة والكرامة بحيث أبت لهم أن يفروا بها عن الحرب فرموا بها فى أتونها وضرامها غير هائبين وتدرعوا طائفة من الليل ومضوا يتقدمون حتى لم يجدوا متقدّما وحتى تقطعت السيوف فى أيديهم. خمسة أبطال قتلوا خمسين شجاعا معلما من الأعداء، وكانوا يستطيعون النجاة ولكنهم رأوا الضرب فى الأعداء حتى النفس الأخير فإن فى ذلك ذكرا عاطرا باقيا لهم. وتكاثر عليهم الأعداء وأخذتهم الرماح من كل جانب وأبوا أن يفروا خشية الموت، ولو فروا لفروا أعزة بما أذاقوا أعداءهم من كثرة القتل والطعن، غير أنهم رأوا أن يصبروا وأن يموتوا فى ميدان الحرب، لينالوا شرف التضحية بالنفس. ويقول ابن قاضى ميلة فى وصف غريق بالبحر (٥):

وما زلت أستسقى له القطر دائبا ... وأستودع الريح السلام المجدّدا


(١) الديوان ص ٨٥.
(٢) الأنموذج لابن رشيق ص ١١٣ وما بعدها
(٣) الردى: الموت. قطعا: طائفة.
(٤) أقعصوا: قتلوا. قرما: شجاعا. مسوّما: معلما
(٥) الأنموذج ص ٢١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>