للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكان الذى استسقيت أول خاتل ... له والذى استودعت من أعظم العد (١)

فتى فاظ بين الماء والريح روحه ... وما زاره أهل ولا زار ملحدا (٢)

وهو يقول إن الذى كان يستسقى القطر له ويستودع له الريح السلام حين تمر بدياره كان الماء أول خاتل غادر له إذ أتاه من حيث لا يشعر، وكان الريح من أعظم أعدائه، وقد فاظت روحه بين الماء والريح وصعدت إلى بارئها، وما زاره أهل، ولا زار لحدا، فقد ذهب أدراج أمواج البحر ولم يين له أثر. ونلتقى فى بجاية بمحمد بن على بن حماد فى القرن السابع ومراثيه للدولة الحمادية، وسنخصه بترجمة. وكان السلطان أبو حمو موسى (٧٦٠ - ٧٩١ هـ‍) شاعرا ومرت له ترجمة فى الفصل الماضى، ومن قوله يرثى أباه (٣):

قد كان لى فى الدّنى أب يساعدنى ... فصار تحت الثرى فى لحده اكتنفا (٤)

مددت فى ظل نعماه يدى زمنا ... ونلت من رفده فى دهرى التّحفا

يا فقد يوسف ما أبقيت لى جلدا ... يا فقد يوسف إنّ الصبر عنك غفا

ما مثل يوسف مفقود لفاقده ... ولا كموسى أخو فقد إذا وصفا

يا قبر يوسف لا تعدوك هامية ... من الغمام ولا زال الثرى وجفا (٥)

وأبو حمو موسى يبكى أباه ويذكر كثرة ما كان يساعده به فى الدنيا حربا وسلما، ويذكر كم مدلّه يده فيملؤها له نعما وتحفا، وقد أصبح تحت الثرى يكتنفه اللحد من جميع جوانبه، وقد أفقده موت أبيه الصبر والجلد، ويشيد به أبا مثاليا ويدعو لقبره أن تظل السحب وافدة عليه تهمى وتهطل، ولا يزال الثرى أو القبر خافقا. ويقول محمد بن يوسف الثغرى فى تأبينه مواسيا أبا حمو موسى (٦):

أسفا لمن فاق الملوك جلالة ... وديانة وبكلّ فضل حوبى

أعظم به من زاهد ومجاهد ... ومنيل رفد تارة ومنيب

هوت النجوم الزاهرات لفقده ... وذوى من الأزهار كل رطيب

وتغيّرت شمس النهار له أسى ... وتبدّلت من نورها بشحوب

وبكت سيوف الهند فى أغمادها ... بدم، بماء فرندها مخضوب

ولقد بكته جياده بصهيلها ... وغدت تحنّ له حنين النّيب (٧)

من للوفود إذا أوت لجنابه ... يلقاهم بالبشر والترحيب

والثغرى يجعله فوق الملوك جلالة ومهابة وديانة وبكل ضروب الفضل من زهد وجهاد


(١) خاتل: غادر.
(٢) فاظ: مات. ملحدا: لحدا.
(٣) كتاب أبو حمو موسى لعبد الحميد حاجيات ص ٣٣٦.
(٤) الدنى: جمع دنيا. اكتنفه اللحد: أحاطه من كل جانب.
(٥) وجفا: خافقا.
(٦) انظر الجزء الثانى من بغية الرواد ليحيى بن خلدون.
(٧) النيب: الإبل المعروفة بحنينها إلى أولادها.

<<  <  ج: ص:  >  >>