للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كل شئ فيه أصبح مبصرا، وسمع حمد كل ما فى الكون لربه وتسبيحه، ويقول إنه فنى عن الفناء، وهو بذلك يردد فكرة الفناء فى الذات الإلهية التى يرددها بعض متفلسفة المتصوفة. ويصرّح بأن إفصاحه لا يفى بمواجده وكذلك بيانه، ويقول إن سر الله فى الوجود لا يكشف، ولو كشف لم يكن سرا غير أنه لا يكشف ولا يذكر. وعبد الحق بن ربيع بذلك كله أقرب إلى روح أستاذه الحرالى وتصوفه من زميله يحيى بن زكريا. ويقرب من روح الحرالى أيضا تصوف إبراهيم بن أحمد بن الخطيب، ومن نظمه قوله (١):

روض المعارف حضرة العرفاء ... وجنا التفكر جنّة العقلاء

ونعيم أهل الحق درك حقائق ... لاحت بأفق القلب حال صفاء

فاقرأ سطور الكون فى منشورها ... بعيان عين أو بفرط ذكاء

وانظر إلى الأكوان كيف تمايلت ... طربا لسرّ لاح عند خفاء

وأفاض عن بحر الجمال أهلّة ... بهرت محاسنهنّ بدر سماء

وتذكّرت نجدا فهاج لذكره ... وجد ونادى الشوق بالبرحاء (٢)

ورأت به كلّ العوالم أحكمت ... فتزيّنت وتوشّحت بضياء

وهو يقول إن حضرة المعلمين روض المعارف وجنا الفكر جنة العقلاء، أما أهل الحق من المتصوفة فنعيمهم إدراك الحقائق التى تلوح بالقلب فى حال الصفاء. وتأمل فى الكون، بل تأمل فى الأكوان وما تحمل من سر بل أسرار لرب الكون وما أفاض عن بحر جماله من أهلة تترى بهرت بدر السماء، وتذكرت نفسه نجدا فهاج به وجد ملتاع وشوق مضطرم ورأت كل العوالم أحكمت وتزينت بلمعة من ضياء الله ونوره.

وإذا تركنا بجاية ومتصوفتها إلى تلمسان وجدنا المتصوفة بها فى القرن السابع قليلين بالقياس إلى بجاية، ومن متصوفتها أبو عبد (٣) الله بن الحجام محمد بن أحمد بن محمد اللخمى واعظ أهل زمانه، حسن صوت وغزارة حفظ من سمعة واحدة لكل ما يطرق أذنه، استقدمه المنصور الموحدى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن إلى مراكش فاستوطنها وحظى عند المنصور والناصر والمستنصر، وكان يتصدق براتبه، ويجهّز منه ضعيفات البنات، وله فى الوعظ كتاب أسماه حجة الحافظين ومحجة الواعظين، توفى سنة ٦١٤ هـ‍/١٢١٨ م، ومما يؤثر من نظمه فى التصوف قوله:

غريب الوصف ذو علم غريب ... عليل القلب من حبّ الحبيب

إذا ما الليل أظلم قام يبكى ... ويشكو ما يكنّ من الوجيب (٤)

يقطّع ليله فكرا وذكرا ... وينطق فيه بالعجب العجيب


(١) عنوان الدراية ص ٢٣١.
(٢) البرحاء هنا: شدة الحب ولواعجه.
(٣) انظر فيه بغية الرواد ليحيى بن خلدون ١/ ١٠٢ وتعريف الخلف ٢/ ٣٦١ وفيه أنه ابن اللحام لا الحجام.
(٤) الوجيب: الخفقان.

<<  <  ج: ص:  >  >>