للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لتلاميذهم فيما عدا وصية كبيرة استحالت إلى كتاب أوصى بها السلطان أبو حمو موسى الثانى (٧٦٠ - ٧٩١ هـ‍) ابنه أبا تاشفين وسماها «واسطة السلوك فى سياسة الملوك» وقد جعلها فى أربعة أبواب بين يديها مقدمة عن السياسة العملية، والباب الأول نصائح فيما ينبغى على المالك أو الحاكم من العدل والتقوى وصيانة المال والعناية بالجيش، والباب الثانى خاص بقواعد الملك أو الحكم وأركانه، وهى العقل والعدل وحسن السياسة والعناية بالمال والجيش، والباب الثالث خاص بالصفات التى تزين الملك والحكم، وهى الشجاعة والكرم والحلم والعفو، ويصرّح فى خاتمة الكتاب بأنه وضعه لابنه أبى تاشفين ليتبع نصائحه فيه، ويستقيم حكمه وملكه، ونقتطف من هذه الوصية الكبرى بعض وصاياه لابنه عن الشجاعة (١) فى الحروب.

«يا بنىّ إذا كان الملك شجاعا، كان منصورا مطاعا، ترهبه الأعداء، وتطمئن إليه الأولياء، يعتد به جيشه فى مواقع الحروب، ويخاف سطوته الطالب والمطلوب. وإذا اقتحمت القتال، واختلطت الأبطال بالأبطال، فغايتك أن تكون حاكما على نفسك، صابرا ثابتا فى جأشك (٢)، ناظرا إلى ساقتك التى هى قلب جيشك، فلتلزم بها الثبات، ولا تتزحزح إلى جهة من الجهات، ولتشدّ بثباتك الأنجاد (٣) والحماة، والمقاتلين الكماة (٤)، وإن انكسر أحد الجناحين من جيشك فلا تهتم به، ولا تنتقل بسببه، فإن انكسار الجناحين مع ثبات القلب لا يضر، والصبر فى مثل هذا عائد عليك بما يسر، لأنه إذا كانت رايات القلب تخفق وطبوله تزار كان ذلك حصنا للجناحين، وأمانا للعسكر من الحين (٥)، وأرجى للظفر بالعدو عند رجوع الجانبين».

وهو ينصح ابنه حين تلتحم المعركة أن يثبت فى قلب جيشه، وإذا رأى فى أحد الجناحين انكسارا لا يميل إليه بمن معه من العساكر، حتى لا يتشوش الموقف ويظنّ أنه منهزم، وحتى لو انكسر الجناحان فإن ثبات القلب يردهما إلى المعركة ويكتب للجيش النصر. ويوصى ابنه ان تظل رايات الجيش فى قلبه تخفق وطبوله تزأر ليكون قدوة لقواد الجناحين ويعودوا إلى مواقعهم من المعركة. ويستمر أبو حمو موضحا لابنه أن الشجاعة لا تكون صحيحة إلا مع الرأى السديد، أما بدونه فتكون مذمومة بل قد تصبح تهورا يؤدى إلى الهلك وإلى زوال الملك. ولا يلفتنا فى هذه الوصية الطويلة ما تحمل من فكر دقيق ولفظ منتخب رشيق فحسب، بل يلفتنا فيها أيضا أنها مسجوعة سجعا محكما، وهى شهادة قوية بأن النثر الأدبى رقى بالجزائر فى القرن الثامن الهجرى، بحيث أصبح الكاتب يفكر فى جرس كلامه الذى يخلب به سامعه،


(١) انظر قاعدة الشجاعة من الباب الثالث من كتاب واسطة السلوك.
(٢) جأشك: قلبك.
(٣) الأنجاد جمع نجد: الشجاع.
(٤) الكماة جمع كمى: المقدام المسلح.
(٥) الحين: الهلاك.

<<  <  ج: ص:  >  >>