وصية لربهم أن يرعى ذريتهم وأهليهم وما استودعوه من أموالهم صيانة للورثة والمال، من ذلك وصية رواها صاحب عنوان الدراية لابن نعيم الحضرمىّ المتوفى بقسنطينة سنة ٦٣٦ وفيها يقول (١):
«هذا ما أودع العبد الله الذى خلق الأشياء، ورزق الأحياء، وملك العالمين، وحفظ السموات والأرضين، أودعه جميع ولد أبيه وأهله وأهل أخيه وجميع ما خوّلهم من نعمه ظاهرا وباطنا، وصيّر ذلك إلى أمانته، وأسلمه إلى رعايته، واستحفظه فى ذلك كله، وتبرّأ إليه من حوله وقوته، ولم يرج سوى فضله وطوله (أفضاله) هو الحفيظ الذى لا يهمل، الوكيل الذى لا يغفل، الجواد الذى لا يبخل، الأول الذى ينعم ويتطول، والأخير الذى لا يزال ولا يتحول».
وألفاظ الوصية مثل ألفاظ الحرالى ألفاظ منتخبة مصفّاة، وقد يجئ فيها السجع عفوا دون قصد، وهى تدل على أن النثر كان قد أخذ يتطور، وأخذ أصحابه يعنون بالملاءمة بين اللفظة واللفظة إرضاء للسمع وإمتاعا للسامع بما يسمع أو يقرأ من الكلم.
وإذا تركنا بجاية والقسم الشرقى من الجزائر إلى قسمها الغربى وتلمسان خاصة رأينا صاحب بغية الرواد يسوق فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد بجزئها الأول طائفة من مشاهير خطبائها ووعاظها مثل أبى عبد الله محمد بن أحمد الحجام المار ذكره بين شعراء المتصوفة والمتوفى سنة ٦١٤ ويسميه يحيى بن خلدون فى البغية: واعظ أهل زمانه، ويذكر له-كما مر بنا- كتابا فى الوعظ اسمه «حجة الحافظين ومحجة الواعظين». ومن كبار الخطباء الوعاظ الذين يذكرهم صاحب بغية الرواد عبد الرحيم بن أبى العيش الخزرجى المترجم لأبيه بين شعراء الصوفية، وكان خطيب الجامع الأعظم بتلمسان وإمامه، وكان يعاصره أبو محمد عبد الله المجاصى المتوفى سنة ٦٤١ هـ/١٢٤٣ م وكان كثير البكاء فى وعظه حتى اشتهر بذلك، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حياء من الله تعالى وخشية منه، وكانت له مواعظ قيمة. ومن الوعاظ بعده سعيد العقبانى المتوفى سنة ٨١١ هـ/١٤٠٨ م خطيب الجامع الأعظم بتلسمان. ونقرأ أخبارا عن روعة مواعظ هؤلاء الخطباء وأن منهم من كانت تقشعر من وعظه الجلود لما يعرض له من عذاب الآخرة وكأنه يرى الجحيم تحت بصره، ومنهم من كان يبكى سامعيه بمواعظه وما يورد من زواجره. ومع ذلك لم تحتفظ العصور السالفة بشظايا-ولو قليلة- من خطبهم ومواعظهم.
ولم تصلنا وصايا عن تلمسان لا من حكام الدولة الزيانية لأبنائهم ولا من شيوخ تلمسان